تحولات المشهد السوداني (2+6).. في انتظار العم سام
بداية ينبغي الإشارة الى مدى ونوعية الإهتمام الامريكي بالسودان . فالسودان كبلد لا يحتل مكانة متقدمة في الإهتمام الامريكي. وأي إهتمام يوجد، أنما ينبع في أطار إهتمام عام جغرافي أو بخصوص حسابات سياسية يكون السودان أحد أدواتها . وقد تكون ملاحظة السفير الامريكي الاسبق في القاهرة جيفرسون كافري في خمسينيات القرن الماضي أول إضاءة على النظرة الأمريكية العامة تجاه السودان الذي كان يحبو في طريقه نحو الاستقلال . كافري كان مهتما باستقطاب النظام الجديد في مصر الذي تولى السلطة في يوليو 1952 ، الى الترتيبات الامنية التي تخطط لها واشنطون في منطقة الشرق الأوسط في تلك الفترة ، ولذلك لم يفهم لماذا تصر بريطانيا على حشر القضية السودانية في تعاملها مع الحكام الجدد في مصر، إذ قال لرصيفه البريطاني : ”لماذا تنشغلون بمصير بضعة ملايين من الزنوج” ؟
* فبالنسبة لكافري المهم أرضاء مصر وسحبها الى المعسكر الغربي. وبعد أكثر من عقدين من الزمان لخص شيستر كروكر ، مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية أبان فترتي رئاسة رونالد ريغان ، إهتمام واشنطون بالسودان في أطار مساندة السودان وقتها لاتفاقية كامب ديفيد وكذلك بسبب مناخات الحرب الباردة اذ يجاور كلا من ليبيا وأثيوبيا المعاديتان للغرب وقتها وبدعم من المعسكر الشرقي، والخوف أن تتمكن الدولتان من أسقاط نظام النميري بما يحقق لهما وجودا في منابع النيل يمكن أن يؤثر على مصر .
* في العام 1983 وصل السفير الأمريكي الجديد هيوم هوران الى الخرطوم وأوضح في أفادات لاحقة ان أهم عنصر في مهمته المساعدة في نقل اليهود الفلاشا، وهي قضية أصبحت في صدارة إهتمامات الإدارة الأمريكية بسبب ضغوط اللوبي الاسرائيلي. وهكذا فالسودان ليس مهما في حد ذاته ، وأنما لجواره لبلدان تهم الإدارات الأميركية المتعاقبة، أو في أطار حسابات سياسية داخلية .
* وهذا ما ينقلنا الى مجال الإهتمام الآخر المتمثل في اللوبيات مثل مجموعات الضغط المسيحية والأمريكان من أصول سوداء الى جانب تلك المجموعات المهتمة بقضايا حقوق الانسان، وكلها نجحت في فرض القضية السودانية على المشهد السياسي ، خاصة على إدارتي جورج بوش وباراك أوباما ، وذلك لآنها أصبحت قضية داخلية تهم هذه اللوبيات ولما لها من انعكاسات أنتخابية، مع ملاحظة تراجع إهتمامات اللوبي الكنسي والمجموعات السوداء إثر أنفصال جنوب السودان .
* أما مجموعات الضغط العاملة في مجال حقوق الانسان التي بقيت ، فنشاطها أفضل ما يكون في مناخات العقوبات، لكن قدرتها تظل محدودة في التأثير الإيجابي لصالح السودان بدليل عجزها عن تأمين مجرد لقاء لعبد الله حمدوك مع وزير خارجية ترمب مايك بومبيو ، في أول ظهور لحمدوك في الساحة الدولية عندما خاطب الامم المتحدة في سبتمبر 2019 ، رغم وجود الإثنين في قاعات الأمم المتحدة . ويقارن هذا العجز بنجاح هذه المنظمات وفي أجواء العقوبات في تأمين مقابلة للرئيس جورج بوش مع شخصية مغمورة من دارفور هي حليمة بشير وتسليمها بوش نسخة من كتابها “دموع الصحراء” في العام 2006 ، وكذلك مقابلة دكتور مضوي إبراهيم الناشط السوداني في مجال حقوق الإنسان ، لبوش في نفس العام . ويضاف أيضا الفشل في تحقيق إختراق لزيارة حمدوك إلى واشنطون في ديسمبر 2019 ، إذ كان أعلى مسؤول قابله وزير الخزانة ستيفن منشين ، ولم ينتج عنها شيء يذكر في مختلف الملفات التي تهم الوضع الإنتقالي الجديد في السودان .
* وهناك أيضا عجز هذه المنظمات -أو عدم رغبتها- في العمل على تسهيل رفع أسم السودان من قائمة الدول الراعية للأرهاب ، رغم مطالبة العديد من الدول من أصدقاء الولايات المتحدة بذلك، بل وحتى عدم بذلها جهدا يذكر لآقناع أدارة ترمب العودة الى الاتفاق الذي توصلت إليه مع أخر وزير خارجية الإنقاذ -الدرديري محمد أحمد- في أواخر العام 2018 . والبدء في اجراءات رفع أسم السودان من القائمة كان يفترض أن تنتهي في نهاية أبريل 2019، وهو الإتفاق الذي علقته واشنطون إثر إندلاع المظاهرات المنائة للبشير. ، وكان يمكن الضغط في إتجاه العودة إلى ذلك الاتفاق بعد التغيير ، هذا اذا لم نضف الدفع في أتجاه مكافأة الشعب السوداني بعدم الإصرار على التعويضات كونه ضحية لممارسات نظام لم يختاروه بداية .
* لكن بعد أنفصال جنوب السودان تراجع هذا الاهتمام المرتبط بقوى سياسية داخلية، وعاد تركيز الإهتمام بالسودان في أطاره الجغرافي ، وهو ما يظهر في تعيين جيفري فيلتمان مبعوثا لإدارة بايدن إلى منطقة القرن الافريقي كلها وليس السودان وحده ، ولهذا فأن نظرته الى السودان تتم في هذا الإطار وتحت العنوان الاساسي وهو تحقيق الاستقرار في المنطقة عموما ، وفي السودان بشكل خاص ، وهو الذي يجاور سبع دول أهمها أثيوبيا الى الشرق أصبحت مهددة بالتفكك ، والى الغرب تشاد التي تعيش إنتقالا قلقا يمكن أن يمتد على مختلف دول الساحل التي تعاني من تصاعد في وجود الجماعات الإسلامية المتطرفة ، ولذلك فأن آخر ما ما تحتاجه واشنطون أن ينفرط الوضع في السودان .
* ومن هنا جاء الترحيب بالإعلان السياسي بين البرهان وحمدوك من قبل المجموعة الدولية بقيادة الولايات المتحدة ، رغم أن ذلك الإعلان يتجاوز المعادلة التي وضعها فيلتمان وهي ضرورة العودة الى الشراكة بين المدنيين والعسكريين ، وألا يطغى أي طرف على الآخر . الإعلان السياسي أستبدل الحرية والتغيير أو المدنيين بشخص حمدوك ، كما أن كل الفترة الإنتقالية أصبحت تحت أشراف العسكريين من واقع قبضتهم الفعلية على مقاليد السلطة ، بدليل غض النظر عن مجلس السيادة الذي شكله البرهان وعين نفسه وحميدتي قائدين له ، بدل نقل الرئاسة الى المدنيين ، وأهم من ذلك أن العسكريين سيسيطرون على الفترة الانتقالية وبالتالي يمكنهم التحكم في عملية الإنتقال والانتخابات المتوقعة ، الأمر الذي وضع حدا نهائيا وعمليا للعبارة الاثيرة : “الحكومة التي يقودها مدنيون” . فالعسكريون أكثر قدرة على تحقيق قدر من الإستقرار أكثر من المدنيين، كما ان عودة حمدوك الى المشهد السياسي يمكن أن تعطي الحديث عن الإهتمام بالتحول الديمقراطي قدرا من الصدقية.
* في الإستراتيجية المؤقتة التي أعتمدتها أدارة بايدن في مارس الماضي ، تم تحديد ثلاثة أولويات بالنسبة لأمنها القومي : حماية المواطنين الأمريكيين ضد تهديدات الدول الأخرى ، وتلك العابرة للحدود ، الإهتمام بالرفاه الإقتصادي وإتاحة الفرص لهم والإستفادة من الإنتعاش الإقتصادي لصالح المواطنين ، وكانت ثالثتها دعم القيم الديمقراطية التي تحتل مكانا محوريا في المجتمع الامريكي والعمل على توحيد الديمقراطيات حول العالم لمكافحة التهديدات الموجهة للحرية .
* وهكذا يبدو واضحا أن نشر الديمقراطية في دول أخرى مثل السودان ليس من ضمن أساسيات مشاغل الأمن القومي . وأذكر أني سألت السفير الامريكي الاسبق شاس فريمان عن تجربة بلاده لإستعمال القوة لإخراج صدام حسين من الكويت ، وأن ذلك تم لأن الكويت دولة نفطية . وكان رده ان السياسة الخارجية تقوم على عامل المصلحة أولا ، والاعتبارات القانونية والأخلاقية ثانيا ، وإذا حدث تعارض فأن الأولوية تذهب الى المصلحة ، ولو أنه في حالة الكويت هذه أجتمع الاثنان، فها هي دولة مستقلة تتعرض الى عدوان من دولة أخرى جارة، وهي في نفس الوقت تمثل مصلحة مباشرة .
* وهكذا يبدو السودان مرشحا في النظرة الأمريكية الى ترتيب يكون للعسكريين فيه اليد العليا مع هامش للحريات لتحقيق قدر من الإستقرار والسماح لواشنطون الإدعاء برعاية التحول الديمقراطي ، وفي إطار إعادة تركيز أهتماماتها في منطقة الباسفيكي ومتابعة التحدي الصيني ، فلن يكون لديها مانع في تولي حلفاءها الاقليميين أمر الملف السوداني . فالسودان في نهاية الأمر لن يكون أعز على واشنطون من دولة جنوب السودان حيث رعت الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة أموره حتى بروزه دولة مستقلة على الخارطة العالمية ، لكنها نفضت يدها عنه بعد دخول قيادات الحركة الشعبية في صراع عبثي سدت الأفق أمام أي إصلاح ، وأتبعت ذلك بعدم تعيين سفير لها في جوبا ، ولا مبعوث خاص بعد تقاعد دونالد بووث ، الذي كان مبعوثا خاصا للسودان وجنوب السودان ، كما أن الأموال التي بحوزة وزارة الخارجية الأمريكية للإنفاق منها على محكمة جرائم الحرب أعيد معظمها الى وزارة الخزانة في واشنطون .
السر سيد أحمد