محمد موسى جبارة: جامعة الخرطوم
كان عبد الله الطيب عميد الآداب قبل أن يتم تشويشها وعمر محمد عثمان عميد الاقتصاد وبروفسير الكارب عميد البيطرة وزكي مصطفى عميد القانون وبروفسير الترابي عميد الهندسة وكان الطب عميدها بروفسير داؤد مصطفى وكان العلوم على رأسها مصطفى حسن إسحق وفي الزراعة كان سعد عبادي وكان أستاذ الجيل البروف محمد عمر بشير السكرتير الأكاديمي…هؤلاء الرجال كانوا دكاترة وبروفسيرات حقيقيين حصلوا على درجاتهم العلمية نتيجة جهد أكاديمي مميز وليس كالذين منحتهم الإنقاذ تلكم الألقاب لولائهم لها…بل
أن بروفسير النذير كان من الذين يمتلكون براءات اختراع في علاج مرض أبو دميعات الذي يصيب البقر، رغم وصف “حمودة” له بأنه خالي ذهن….. لقد كان نصف أساتذة الجامعة وقتها من غير السودانيين…تعلمنا الأدب الإنجليزي على يدي مس كوك…امرأة كانت في خريف العمر، خطيبها مات في الحرب العالمية فنذرت نفسها للتدريس والعزوبية… بصوتها الحنون الحزين كانت تلقي علينا رائعة كولريدج “الملاح القديم” وكنا نستمع منها لأشعار شكسبير وييتس وت.س. اليوت وجيمس جويس وغيرهم من شعراء الفرنجة…تلقينا قواعد اللغة الإنجليزية على يد ماكملان رئيس الشعبة، وعلم اللسانيات علمتنا إياه الجميلة مسز اسميث…لا أدرى ما الذي أتى بتلك الفرس الحسناء إلى ذلك البلد لتنشر فيه العلم والجمال معاً؟ الم اقل لكم إن الزمان كان زين… درّسنا هيكوك التاريخ القديم…استشاط غضباً وضرب الطاولة حتى كاد يشقها عندما قال له أحد زملائنا بأن الحضارة السودانية ما هي إلا امتداد للحضارة المصرية أو appendix كما ذكر زميلنا…قال له هيكوك غاضباً “ماذا تركت إذاً للمصريين ليقولوه؟”
في الفلسفة كان كافنديش وشاهين ولم يكن كمال شداد قد عاد بعد من البعثة… ولمعلومية الأخ طلحة جبريل كانت توجد في جامعة الخرطوم شعبة عريقة للفلسفة درسنا فيها الماركسية والوجودية والشك الديكارتي وأفلاطون وسقراط ومن بين أساتذتها كان الدكتور جعفر شيخ إدريس وتخرج فيها كمال شداد وطه أمير والخاتم عدلان ولعل الزبير بشير طه كان أحد خريجيها…هذا فقط لذكر الذين كانت سيرتهم على أجهزة الإعلام…
“الأنصاري جانا وقال أنا عندي ليكو سؤال، ردت علـيه نــوال برّم شــنيباته”. الأنصاري كان أستاذا مصرياً درسنا على يديه ألفية ابن مالك كان رجل يحب الجمال ويستملح المنظر الحسن، وهذا المقطع جزء من قصيدة:
يا أخــوانا ما تفــوتوه يلا نمشي ون أو تو “102 “…
وهي قصيدة طويلة جادت بها قريحة طلبة تلك الدفعة أو التي تليها، غير أن نوال كانت زميلتنا…ومن بين الذين سقطوا ضحايا المجزرة الأكاديمية التي طالت الكثيرين من طلبة وطالبات تلك الدفعة خصوصاً طلبة الفلسفة الذين سقط تسعون في المائة منهم في ذلك العام…بعد ذلك بعامين فُصلت سيدة التي أبكى فصلها الجامعة وقال فيها الشاعر المطبوع:
مالو العميد
مالو البليد
لو شغّل مُخه العنيد
وخلا ست الناس تعيد…
قصيدة يا سيده لا سارت بها الركبان، متع الله صاحبتها بالعافية…
في شعبة اللغة العربية كان بروف عبد الله الطيب الذي درّسنا المفضليات وعون الشريف قاسم ومنه تعرفنا على فقه اللغة والحبر يوسف نور الدائم وعز الدين الأمين…
من بعد ذلك تعلمنا القانون على أيدي د. زكي مصطفي وكليتون الذي كان لاعب كرة مشهور في الفرق الإنجليزية، وهِل ومور وبارصاد وكريشنا فاسديف وناتالي ألواك ودكتور الضرير وأمين مكي مدني وعبد السميع عمر وسعيد محمد أحمد المهدي ومحمد إبراهيم الطاهر… رصاص ديجانقو كان يلعلع في سموات الخرطوم وسرتانا كان لا يرحم في الوطنية بحري…كنا نتابع صوت الرصاص إلى الحلفاية بحري والوطنية غرب وكلوزيوم وقد تقودنا أقدامنا الشقية إلى النيلين أو الخرطوم جنوب فيحدث لنا ما يحدث… ال BN كانت للصفوة، أفلامها منتقاة بعناية لا تعرض على شاشتها الأفلام العربية ولم تستطع “سبنا” بكل حسنها أن تطل من على شاشتها ولا شامي كابور الوسيم استطاع أن يقتحم عالمها.
سمير اسكندر كان يصدح بأغاني الجاز في الكازينو وجار النبي يصرح في آخر لحظة الحائطية: “البار لن يقوم”…
قام البار وأودع جار النبي بعد مايو، خلف الأسوار… منذ أن دخلنا الجامعة وإلى حين تخرجنا منها مرت بنا أحداث كثيرة على النطاق العالمي والمحلي والجامعي بعضها جسام وأُخر تركت في نفوسنا ندوب لم يمحها الزمن…كان أولها وأكثرها ايلاماً لي، مقتل تشي جيفارا…
ذات يوم وقف عبد الهادي الصديق في منتصف الغرفة العامة “the common room ” حيث كنا مجموعة من الطلبة نتجادل في كل شيء…اذكر ذلك اليوم جيداً لأنه كان العاشر من أكتوبر وكان عيد ميلادي…قال عبد الهادي إن جيفارا قُتل أول أمس”…
تألمت كثيراً للنبأ فقد كان جيفارا رمزاً نضالياً لبعض أبناء جيلنا المحبط بالهزيمة…قلت لعبد الهادي ألا ينقصنا سوى هذا الخبر؟…
بعد أن عرف أني من عطبرة، قال لهذا السبب أراك متأثراً لنبأ مقتل جيفارا…
عطبرة بالنسبة إليه كانت توأم بيت المال الذي جاء منه، كانت تعني له كما لبقية أهل السودان النضال والكفاح والثورة، وأهل عطبرة يتجشمون الصعاب ويركبون العجلات يجالدون الإستعمار قديمه وحديثة، يرفضون الفكر الظلامي ويؤمنون بتقدم وازدهار البشرية…عطبرة كانت أول مدينة سودانية تحتضن منتجات الثورة الصناعية، قطار البخار، وقدم أبناؤها أول شهداء تقدمهم مدينة بعد عبد القادر ود حبوبة، عبد الوهاب حسن مالك وقرشي الطيب وعبد العزيز إدريس شهداء النضال ضد الجمعية التشريعية في العام 1946 وشهدت أول بناء نقابي مؤسسي، هيئة شئون العمال…أبناء عطبرة يغشون الوغى ويعفّون عند المغنم لذا تراهم دائماً في قلب الأحداث دون أن يبحثوا عن الزعامة، وإلا كان عبد الرحمن إبراهيم حامد “أبو زرد” على رأس المجموعة الحاكمة في السودان… فقد كان أول طالب يدخل اللجنة التنفيذية من السنة الأولى مرشحاً من الاتجاه الإسلامي رغم وجود على عثمان طه في نفس دفعته…..
عاصرنا من ثمّ مقتل طالب الطب على يد زميله في السكن، وقد كان الحدث الأول من نوعه، هز كيان المجتمع العاصمي وكانت له تداعياته في إصلاح النظام الطبي في العاصمة باجمعها…السبب لم يكن سياسياً كما هو حال قتل الطلاب على زمن ألإنقاذ…فقد كان القاتل مصاب بالشيزوفرينيا وكانت تلك أول مرة نسمع فيها بذلك المرض… ثم كانت أحداث 6 نوفمبر 1968 والاعتداء على حفل الفنون الشعبية الذي أقامته جمعيتا الثقافة الوطنية والفكر التقدمي التابعتان للجبهة الديمقراطية حيث راح ضحية ذلك طالب في سنته الأولى ولم يعرف من هو قاتله حتى يومنا هذا، رغم أن الجميع حاول أن يستثمر الحدث سياسياً…
في مايو من عام 1969 وقع ذلك الانقلاب المشئوم الذي كان له دور سلبي على مجمل الحياة السودانية… لقد كانت مايو بحق مفترق طرق لم يعد السودان بعده إلى جادة الصواب…كنا عائدين من معسكر لجمعية تطوير الريف في رفاعة نبنى طريق يربط رفاعة بمشرع البنطون عندما سمعنا بنبأ الانقلاب…الطلاب في ذلك الزمن كانت معسكراتهم للبناء وليس للحرب والتدريب العسكري ودورة عزة السودان كما يحدث الآن…
في نوفمبر من نفس العام اُنتخب على عثمان محمد طه رئيساً لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم بعد أن حصل الأتجاه الإسلامي وقتها على 19 مقعداً من مقاعد الإتحاد الأربعين فشكّل الأغلبية في اللجنة التنفيذية بالتحالف مع الوطني الاتحادي والأمة اللذين فازا بمقعدين لكلٍ منهما… لم يُعمّر ذلك الإتحاد أكثر من خمسة أسابيع…فقد طرح توصية على الطلاب ينقض بها قرار اتحاد عبد العظيم حسنين المؤيد لمايو…اسقط الطلاب تلك التوصية وذهبوا يهتفون بذلك عند منتصف الليل إلى وزارة الداخلية التي كان عليها المرحوم فاروق حمد الله…سقوط التوصية عنى لنا، مستعينين بالطريق إلى البرلمان للزعيم الأزهري، سقوط اللجنة التنفيذية، وكذا كان الأمر بعد أن استقال سبعة عشر عضواً من المجلس الأربعيني..
في العام 1970 وبتوصية من الدكتور جعفر محمد على بخيت المشرف على شئون الطلبة كوّنا سكرتارية الجبهات التقدمية…دكتور جعفر استند في توصيته على أن الإتحاد وفق اللائحة 23 يعتبر جزء من أجهزة الجامعة له دوره في تسيير بعض شئون الطلاب خصوصاً الجمعيات الطلابية التي يشرف عليها الإتحاد، وفي حال غيابه يجب ايجاد بديل له…
في مارس من ذلك العام وقعت أحداث الجزيرة أبا وود نوباوي…وفي نوفمبر من نفس العام وقعت المفاصلة داخل مجلس ثورة مايو أُخرج على اثرها ثلاثة من اعضاء مجلس الثورة بحجة موالاتهم لعبد الخالق محجوب…أما مارس من العام الذي يليه، فقد شهد اصطفاف لواء مدرعات بشارع الجامعة ليبرهن على غباء وغطرسة القوة…ولتلك الأحداث قصة لا بد من ذكرها…
في الرابع من فبراير من عام1970 أصدر جعفر نميري قراراً يقضي بتبعية الجامعة لوزارة التعليم العالي…رفضت سكرتارية الجبهات التقدمية ذلك القرار وأبرقت جعفر نميري بذلك وطالبته بسحبه في 48 ساعة… بالطبع لم يعر الرئيس الأمر اهتماماً بينما تصاعدت وتيرة الحماس الطلابي إلى حدها الأقصى وطالب الطلاب السكرتارية بتنفيذ الإضراب والاعتصام…من وقتها وإلى يومنا هذا ما زلت على قناعة بأن من كبائر الأمور التي وقعت فيها القوى التقدمية بالجامعة، إثارة هذا الموضوع إبتداءاً في زمن كان فيه الطلاب يعانون من هستيريا الامتحانات…وقد كان رأيي أن ننتظر حتى نعود من العطلة…أما وقد اثير الموضوع بتلك الطريقة من التصعيد فإن عدم مواصلته ينطبق عليه المثل الجزائري: “سَلْ السيف عيب وإرجاعه عيبين”…ومن الغرائب أن إدارة الجامعة وهيئة التدريس لم يحركا ساكنا في مواجهة القرار كما فعل الطلاب…
السكرتارية المكونة من الجبهة الديمقراطية والإتحاد الاشتراكي الديمقراطي والبعث العربي والطلاب الجنوبيين لم تستطع الذهاب بالأمر إلى نهايته المنطقية لأسباب التحالفات الموجودة وقتها بين المكون الخارجي لتلك التنظيمات وسلطة مايو، فكان العمل الطلابي ضحية للنفوذ الخارجي الذي كان يقيس الأمور بمقياس آخر غير المقياس النقابي الطلابي…بل أن طلاب الجبهة الديمقراطية قد تلقوا توبيخاً قاسياً من قِبل الأساتذة الذين كانوا يمثلون رأي الحزب الشيوعي داخل الجامعة…أذكر أنه عندما ساء الوضع قررنا في تنظيم الإتحاد الاشتراكي الديمقراطي أن نتصل بالرئيس جعفر نميري…كان وسيطنا في هذا الأمر الأخ هاشم التني الذي كان يتولى منصب مدير مكتب وزير الشباب…هاشم جاء لهذا المنصب عندما كان د. منصور خالد وزيراً للشباب…بعد ترك منصور الوزارة وأصبح مندوبا للسودان بالأمم المتحدة شغل منصب وزير الشباب الرئيس نميري بنفسه لفترة قصيرة…نميري كان دائما يملأ الفراغ الوزاري ووصل به الأمر أن شغل في سبتمبر 1975 منصب النائب العام رغم أن من مقتضيات المنصب أن تكون لديك إجازة في القانون…
هاشم كان يسكن في ميز الخريجين في المبني الواقع حالياً داخل وزارة الخارجية، يشاطره السكن المرحوم اشول دينق، فقد كانا صديقين وزميلي دراسة بكلية القانون وكلاهما كان من نابغي الدبلوماسية السودانية…طرقنا باب هشام في العاشرة من مساء العاشر من مارس 1971… هاشم كان من زعماء الاشتراكيين الديمقراطيين ومن القيادة التي كانت على رأس الاتحاد في ثورة أكتوبر لذا لم يستغرب لجوءنا إليه في هذا الأمر…الرجل حاول كل ما في وسعه لكي يتصل بجعفر نميري لكنه لم يوفق رغم أنه كان مدير مكتبه كوزيرٍ للشباب…وقتها لم يكن الموبايل قد عرف طريقه إلى الأيادي…من ثمّ حاول الاتصال بزملائه في وادي سيدنا من أعضاء مجلس الثورة مأمون وخالد إلى أن أسعفه التفكير بالاتصال بمنزل الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم الذي أصبح وزيراً للداخلية عقب إقصاء بابكر النور وهاشم العطا وفاروق حمد الله من مجلس الثورة في نوفمبر 1970…ابو القاسم لم يكن موجوداً فترك هاشم رسالة لدى زوجته…عند منتصف الليل جاء أبو القاسم الذي كان يسكن بجوار متحف الأثنوغرافيا في الجهة المقابلة لسكن هاشم..كان وحده يقود سيارة فولكس واجن ودار بيننا ما دار من نقاش…كان يبدو من هيئته أنه كان في “قعدة”، فراح يصف نفسه بأنه ديمقراطي ثوري ولا يقل عنا ثورية، وقال إن جعفر نميري غاضب منا ولا يريد أن يلتقي بأيٍ من الطلاب وبخاصة اعضاء سكرتارية الجبهات التقدمية…واقترح أن يأتي هو إلى الجامعة ليخاطب الطلاب…أخبرناه بأننا لن نستطيع ضمان سلامته، وفي هذه الحالة سيسوء الأمر ويخرج عن نطاق المعقول…
وعدنا في نهاية اللقاء بأن يتصل بمدير الجامعة صباحاً لكي يصدر بياناً مشتركاً يوضح فيه أن الجامعة لن تكون جزءا من وزارة التعليم العالي…
الذين حضروا ذلك اللقاء كانوا احمد عثمان سراج وعبد القادر أحمد الشيخ وسيد جلال الدين السيد وكمال يعقوب الصايغ وكمال أحمد الزبير وكمال مصطفى شبر وشخصي وقد كنا جميعا اعضاءاً في المكتب السياسي للإتحاد الاشتراكي الديمقراطي…
سيد جلال الدين كان أول سكرتير لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم من طلبة البرليم.. في أثناء خروجنا علق الأخ هاشم على الطريقة التي تحدثنا بها مع أبو القاسم وهو القادر على اعتقالنا في تلك اللحظة…فقد كنا نخاطبه وكأنه طالب معنا..فيما بعد علمنا بأن هناك من كان يتربص بنا من رجال أمن الرجل إلا أنهم عدلوا عن رأيهم عندما شاهدونا نخرج من نفس المكان…
لم يفي ابو القاسم بما وعد وأنشغل باجتماع مجلس الوزراء في اليوم التالي ولم يصدر البيان إلا متأخراً ومن مدير الجامعة لوحده، فلم يكن ليقنع أحد بمن فيهم نحن الذين عملنا على إصداره…وقتها كانت مجموعة الطلاب العشرة التي قادت الأحداث قد تولت زمام الأمر من السكرتارية وسحبت البساط من تحت أقدامها…وبهذه المناسبة وحسماً للمزايدة التي حدثت بعد ذلك والإدعاء بقيادة ذلك الأمر، لم يكن بين تلك المجموعة من هو على علاقة بالإتجاه الإسلامي…كانوا شباباً شجعان وقد لبوا نداء الطلاب عندما تخلينا نحن عن مسئوليتنا، فلهم التجلة رغم مرور كل هذا الزمن…
حدث بعد ذلك ما سجله التاريخ، وأغلقت الجامعة أبوابها ولم تفتح إلا في شهر أكتوبر من نفس العام…في اثناء ذلك الإغلاق وقع انقلاب هاشم العطا ودخل ما يزيد على الثلاثمائة من طلاب اليسار السجون بينهم طلاب من المدارس الثانوي وكان ذلك أعلى رقم تشهده سجون السودان منذ تأسيس التعليم العالي بل ومنذ انشاء السجون في السودان، ولا أدري كيف لم يسعى البعض إلى تسجيل هذا الرقم في موسوعة جينيز!!
على سطوح شعبة الجغرافيا جلسنا نتسامر ذات مساء، عبد الصادق عوض وشارلس بوث ديو وشخصي…قلت لهم لن يكون مستقبلنا خيراً من حاضرنا، لا أدري كيف وصلت إلى ذلك الإستنتاج…خالفني الرأي عبد الصادق بينما أمّن على رأيي شارلس…والده كان وزيراً في الديمقراطية الأولى والثانية ويعيش في الخرطوم proper كما كان يحلو للسمحوني تسمية منطقة الخرطوم شرق التي استحالت في عهد الإنقاذ بيوتاً للأشباح واوكاراً للتعذيب…في منزلهم تعلمنا حفلات ال party والرقص على انغام موسيقى الجاز…
عندما أرى حالنا اليوم استذكر تلك الرؤية، فما زال أكثر من نصف تلك الدفعة يعيش في الشتات، وكلهم لا يدري كيف ومتى يعود…اسأل نفسي دائما وأنا ارى حال من اتخذتهم أهلا لي من السويسريين، لماذا لا نكون هانئين آمنين في سربنا، نضمن قوت يومنا في وطننا كما يفعلون هم حيث تتولاهم الدولة برعايتها من المهد إلى اللحد؟
لكني لا اتعب نفسي كثيراً في الإجابة على هذا السؤال “الهاملتي” أن نكون أو لا نكون…فلو كان لدينا سياسيون يعرفون ما معنى السياسة لكان حالنا غير هذا…إلا أن المؤسف إن الذين يمارسون السياسة في السودان أما جهلة بها أو مغامرون يلعبون النرد على قميص المسيح كما فعل بعض اليهود عندما شُبّه لهم…
زميلاتي وزملائي اللائي والذين كانوا معي في تلك الدفعة لكم التحية أنّى كنتم، ورحمة الله على الذين ارتحلوا منا إلى دار البقاء…عبد الهادي الصديق والخاتم عدلان وخالد عبد المجيد وعبد الماجد ابو سبيب ومحمد عبد الرسول كاكوم وبشير محمد أحمد “بشير الراجل” وقد سُمي كذلك لبسطة في جسمه…أما الذين رحلوا عنا ولم اسمع عنهم فعزائي في أن يقرأ أبناؤهم هذه الخاطرة ويعرفوا إنّا واباؤهم قد تشاركنا يوماً الحلوة والمُرة في البركس وبحر العرب والرهد والحقوق وتهراقا…تحاورنا وتشاجرنا واختلفنا وكان الود بيننا محفوظ…التقينا على طاولات الطعام وفي دار الإتحاد وقهوة النشاط وعند جبريل الغسال…جبريل كان من أهرامات الجامعة، علم على رأسه نار، قال عنه صديقنا غازي سليمان إن ثورة اكتوبر نجحت بسببه هو ود. سلفاب وجبريل الغسال…أما كيف كان ذلك؟ فلغازي سليمان أسلوبه المميز في سرد الأشياء…
ثالوث ذلك الوقت الذي كانت له الشهرة أكثر من بعض الأساتذة، كان يضمه مع حمودة العركي وعم السر كوكو متعهد قهوة النشاط…فقد كانوا يشكلون لنا عالماً مختلفا من المعرفة…
لا أدري لماذا يضرب السودانيون الفول؟ إلا إنّا أكلنا فول أبو العباس واحتسينا ماء الحياة بمسمياته المختلفة في رويال والمك نمر، وغشي البعض منا خلسة تلك البيوت الخلفية…وفي رجوعنا كان يتربص بساعات معاصمنا عباس رويال… عباس كان من أبناء النوبة، وشاءت الصدف الغريبة أن لا أراه إلا ميتاً… فقد تحرش ببعض أبناء الهدندوة في الفسحة التي كانت تفصل معهد المعلمين عن القماير، فاردوه قتيلا بطعنة خنجر…كنت يومها في مشرحة مستشفى الخرطوم أتابع إجراءات تشريح جثمان عم عبد الرسول حارس بيت الشباب الذي كنت مسئولاً عنه في العام 1973…عم عبد الرسول مات في نومه بسكته قلبية، فأرادت السلطات أن تتأكد من طبيعية الوفاة…هناك رأيت امرأة تولول فعرفت أنها شقيقة عباس رويال، فتجرأت وفتحت غطاء وجه الرجل الذي كان يرهب الطلاب…رحم الله عباس رويال فقد سمع به الكثيرون من طلاب تلك المرحلة إلا أن قليل منهم شاهده، فقد كان يقطع الطريق في الشوارع المظلمة ليلاً بين رويال والجامعة…
تخرجنا واشتغلنا واغتربنا وعدنا بالغنيمة بالإياب…بعضنا أحيل للصالح العام وآخرون صاروا وزراء، حسن محمد إدريس في الديمقراطية الثالثة، وعوض الجاز أحد اركان الإنقاذ ويبقى ادوارد لينو وفتحي خليل قاب قوسين أو أدني من الاستوزار.. وبعضٌ آخر امتهن الصحافة فكان السر سيد أحمد وهشام محمد أحمد هشام وعلى عثمان المبارك…وكان هناك الأكاديميون موسى شلال وعبد الحميد بله النور ومحمد المهدي بشرى والهدع ود. سلمان الذي ترك الأكاديميا للبنك الدولي…واستثمر أنور وقيع الله والشيخ درويش في التعليم فأسهما في نشر المعرفة والوعي… وكان من بيننا السفراء والدبلوماسيون، عبد الهادي الصديق وعوض محمد حسن “سخانه” وبشرى الشيخ دفع الله وأحمد عمر أحمد البشير…أما القانونيون فكان من بينهم حمزة محمد نور وجعفر السنوسي وحسن ساتي السيد وعبد الرحمن سنادة وعبد الرحمن على صالح والسر سعد وجعفر صالح وصديق طلحة، على ذكر الذين عملوا في القضاء… والتحقنا بالنائب العام وقتها على قيلوب وعمر أمين التوم وصديق كدودة ومدني العرضي وتاج السر بخيت وحمد محمد اسماعيل…أما ذروة سنام تلك الدفعة فقد كان مولانا شيخ الجيلي عبد المحمود حفظه الله وابقاه… لم آت على ذكر زميلاتي لا لأني لا أتذكرهن بل لأن أحداهن قالت لي وقد رأت الشيب يعلو هامتي والوجه يكسوه الزمان: “محمد أرجوك لا تقل إني زميلتك” وكانت جادة في تحذيرها…
يحمر الشفق عند المغيب وتسكن رويداً شقشقة العصافير العائدة إلى اوكانها في المساء… يهبط الظلام ويبدأ نقيق الضفادع في أداء كورالي مموسق يقوده مايسترو، يتخلله من وقت لآخر صوت التوم ابراهيم العاقب وهو يصدح بالندامة في داخلية الرهد…وفي بحر العرب، مصطفى رحلة يغني the lonely man in the coral sea …نستعذب اللحن وننام ملء جفوننا كأننا نستمع إلى السيمفونية الخامسة لبتهوفن في جناح خاص بفندق جورج الخامس بباريس…
تلك أيام كانت لها سيقان جرت بنا سراعاً دون أن نلحظ ذلك ووقفت بنا على اعتاب الستين… خلّفت في أفواهنا طعماً لم ننعم بمذاقه منذ حينها…لقد منحتنا جامعة الخرطوم كل شيء، العلم والمعرفة والخِل الوفي فكانت هذه لمسة وفاء لها…ولو عاد الزمان على عقبيه لكان لنا معه شأن آخر…
بقلم
الأستاذ: محمد موسى جبارة
27/7/2007
كلام ونسة ،، المحصلة شنو ،، صفر كبير، لو جيلكم فيهو خير كان حال البلد اتصلح ،،
وفرحان بتعليمكم الماركسية في قسم الفلسفة ،، اها خم وصر