عادل الباز

عادل الباز يكتب.. مشهد (52)


لكارلوس مع النساء قصص طويلة، إلاَّ أنَّ قصته مع ”بلين“ كانت أغربهن. طرائقه مدهشة في اصطياد فرائسه. حين كان شاباً وسيماً ذا شعر ”مسبسب“ وصوت رخيم، كان نجم الرقص في حفلات كراكاس. لم تكن الحفلات التي يبدع بالرقص فيها إلاَّ مراتع لصيد غُزلانه. خلال الرقص يعمد كارلوس لاستعراض مهارته وقوته الجسدية ملقياً فتوّته كشبكة لالتقاط سمكة اليوم، التي غالباً ما تأتيه طائعة عقب الحفل مباشرة. بعد مغادرته إلى موسكو، استهواه النضال الأممي مع رفاقه ورفيقاته، استخدم كارلوس معرفته الواسعة بمجريات النضال ضد الإمبريالية في العالم وثقافته العميقة بتاريخ حركات التحرُّر في أمريكا اللاتينية وسيلة لاجتذاب فرائسه المناضلات (صديقات وعشيقات وزوجات)، وكانت أشهرهن ”أوريليو“.

في أواخر السبعينيات بعد أن اكتسب شهرته كإرهابي عالمي أو مناضل أممي (بحسب موقفك)، وجرت الثروة بين يديه، دخل مرحلة الإغراء المالي الذي وظفه لعملياته، ولخلق قاعدة متنوِّعة من العشيقات والنساء. ”بلين“ لم تبحث في علاقتها مع كارلوس عن حب، ولا عن مال، ولا عن متع جنسية. كانت تستهويها حكاياته المتنوعة، وتجاربه اللامحدودة. عرفت ”بلين“ في حياتها تجربة الكفاح المسلح التي خاضتها على أيام حرب التحرير، وطوت ملفها بعد أن تحرَّرت بلادها في التسعينيات. ولسوء حظها فإنَّ أيام النضال والأحلام التي أضاعت شبابها من أجلها تحوَّلت لسراب. ظلَّ كارلوس يحكي لها قصصاً أغرب من الخيال، بل كاد يتحوَّل لشهريار يحكي لشهرزاد قصصاً من ألف ليلة وليلة وليس العكس. الساعات الطوال التي ينفقها كارلوس في حكاياته مع ”بلين“ هي ما أثار حنق ”ليلى“ على ”بلين“، وجعلتها تنفجر في وجهها حين كان كارلوس بداخل الكافتيريا أثناء لقائه مع صدِّيق.

مشهد (53)

حين رأت ليلى صدِّيق والكتاب بيديه، أدركت الحكاية. نفس الشخص الذي زار محلَّها قبل أيام يحمل ذات الكتاب الذي أوصلته لمكتب الترابي. كان الاستنتاج سهلاً بالنسبة لها… الترابي وكارلوس يتعرَّفان على بعضهما بواسطة شخص ثالث. كانت ليلى بعد مرورها على منزل كارلوس للاطمئنان عليه وإخطارها بواسطة مرافقيه بأنه غادر المنزل الساعة الثامنة والنصف، قدَّرت أنه ربما ذهب لكافتيريا ”مرمرة“ التي أشار لها في أكثر من مرَّة حين حدثها عن الأثيوبية الجميلة التي تديرها، وهي نفسها قد زارتها من قبل معه. حين وصلت في تلك الليلة لباب الكافتيريا قابلتها ”بلين“ بجفاء، وأخطرتها أن تجلس في الجناح الآخر بعيداً عن موقع كارلوس. الحقيقة أن ”بلين“ كانت تنفذ حرفياً أوامر كارلوس بإخلاء جزء معيَّن من الكافتيريا لأن لديه ضيفاً مهماً سيزوره هنا. حدثت تلك المشادة التي شهدها صدِّيق وبعدها غادر المكان. فيما بدا كارلوس محتاراً حين اختارت ليلى الانسحاب وبقي هو في الكافتيريا مع ”بلين“ التي كانت تبكي بسبب الإهانة التي تعرَّضت لها.

مشهد (54)

بدأت ليلي تفكر جدِّياً في مغادرة عالم كارلوس نهائياً. فليس باستطاعتها الارتباط به، إذ أن الثمن الذي عليها دفعه يمكن أن يمتد لخسارة أسرتها وأولادها نتيجة هذه الزيجة، وكارلوس نفسه لا يمكن الوثوق به، ولا بعلاقاته النسائية. هي من بيت أسرة عريقة ومحترمة، لن تغامر بسُمعتها برهانها على علاقة يمكن أن تسيء لها ولأسرتها، خاصة إذا ما تكشَّفت علاقات كارلوس التي يحاول أن يقيمها مع ”بلين“ وأمثالها. انتهت ليلى لقرار ينبغي أن يُبلَّغ لكارلوس على وجه السرعة، وهو إلغاء فكرة الزواج أولاً، ثم تبحث لها عن طرق لإنهاء علاقتها به كلياً. ما جرى مع ”بلين“ في تلك الليلة على قارعة الطريق في كافتيريا ”مرمرة“ دفعها للتفكير في اتخاذ قرار يضع حداً لتلك العلاقة.

مشهد (55)

بينما كان كارلوس منشغلاً بتصفية خلافات ”بلين“ وليلى، كانت باريس تتهيأ للقاء مهم مع وفد أمني من الخرطوم. كان وفد الخرطوم قد أكمل آخر لقاءاته مع القيادات السياسية لبحث آخر المستجدات في الأجندة التي يُفترضُ أن تُبحث هناك، ولم يتبقّ على سفر الوفد سوى 48 ساعة. سؤال الفرنسيين عن كارلوس بحسب معلومة عطا المنان، والتي أكدتها برقية أخرى واردة من مندوب الجهاز هناك محيي الدين الخطيب ظلَّ غامضاً ومجهولاً لدى الوفد ما عدا صلاح سعد… كان صلاحاً أكثر أعضاء الوفد توتراً لأنه وحده يعرف الحقيقة من بينهم، ولكن هذه الحقيقة دائرتها مغلقة تماماً بينه والترابي، وليس باستطاعته الإفصاح عن ما لديه من معلومات. حين قابل الشيخ آخر مرَّة قبل أسبوع من السفر، وأخطره بمعلومات الفرنسيين عن وجود كارلوس بالخرطوم، وسفره لباريس، أشار عليه بأن تبقى حقيقة وجود كارلوس بالخرطوم تخص اثنين فقط. كان على صلاح ترتيب أمر كارلوس قبل المغادرة لباريس… الآن مهمة صلاح ليس التعرُّف على كارلوس، فتلك المهمة أنجزها بنسبة كبيرة حتى الآن، ولكن عليه تأسيس علاقة خاصة معه يطمئن إليها وعبرها تتم السيطرة عليه تماماً.

مشهد (56)

توقّف ”موتر“ على ناصية بيت كارلوس، وتقدَّم شاب يرتدي ”سديري“ و”سروال“ تجاه المنزل مقدِّماً نفسه لأحزابد رفاق كارلوس على أنه «من طرف صدِّيق“». أصبح اسم ”صدِّيق“ معروفاً للحُرَّاس كصديقٍ لكارلوس… حين قابل كارلوس الشاب أخطره بأن صدِّيق أمره أن يكون تحت خدمته، وأنه سيظلَّ موجوداً بالقرب منه ومن البيت، دون أن يحس به أحد بغرض تأمينه وحمايته، وتلك هي أوامر ”صلاح“. كان صلاح قد أخطر كارلوس بالأمر ولم ينتظر موافقته. كارلوس يعلم أن الهدف من توفير حراسة له هو مراقبة تحرُّكاته. قبَلَ الفكرة على مضضٍ، باعتبار أنهم أصلاً يراقبونه دون معرفته ودون موافقته، والآن يرغبون في فعل ذلك بموافقته. بدا له أن ذلك أفضل، على الأقل الآن يمكنه الاستعانة بشخص إذا ما جرى له مكروه… فقد كان مكشوفاً طيلة وجوده بالخرطوم.

مشهد (57)

في مطار شارل ديغول كان الضابط الذين يتبعون لجهاز ”d.s.t“ (الشرطة الفرنسية) وبرفقتهم عناصر من المخابرات الفرنسية على أهبة الاستعداد لاستقبال الطائرة المُقلَّة للوفد الأمني السوداني الذي يترأسه ”هاشم باسعيد“ ومجموعة من ضباط الأمن السوداني، أشهرهم ”حسب الله عمر“ و”صلاح سعد“… تلقى الوفد استقبالاً باهراً من قبل السلطات الفرنسية وتمَّت استضافته بفندق ”صُوفيتل“، أرقى الفنادق بالعاصمة باريس. في المساء انعقد اجتماع بين الوفد وطاقم السفارة للإطلاع على آخر المستجدات، وتمَّ التطرُّق لكل الموضوعات السياسية التي في الأجندة، ما عدا موضوع كارلوس… بعد انفضاض الاجتماع، انتحى صلاح سعد وحسب الله بمُحيي الدين الخطيب وعطا المنان بخيت للاستماع إليهما حول ما أثاره الفرنسيون بوجود كارلوس بالخرطوم. قدَّم عطا المنان تنويراً شاملاً حول مدى حساسية قضية كارلوس في الأوساط السياسية والإعلامية في فرنسا، ولدى الشعب الفرنسي عامة بسبب الجرائم التي ارتكبها في فرنسا، وقدَّم ملفاً كاملاً حول تلك الجرائم… أفاد الخطيب أن ضابط المخابرات الفرنسي الذي التقاه أخطره بوجود دلائل تُثبت وجود كارلوس بالخرطوم… تساءل الخطيب ما إذا كانت مع الوفد معلومات تثبت أو تكذب ذلك الادِّعاء؟! نظر صلاح لحسب الله الذي أفاد بأنهم كجهاز ليست لديهم أية معلومة حول وجود كارلوس من عدمه بالخرطوم، ولكنهم جاهزون للتعامُل الإيجابي متى وُجدت قرائن تؤكد وجوده بالخرطوم، وهذا هو الموقف الرسمي الذي سيتم التعبير عنه إذا ما أُثير الموضوع في مباحثات الغد. لقد استطاع حسب الله بذكائه أن يجد مخرجاً كريماً لوفده، ولصلاح، الذي تبنَّى هذا الموقف تماماً، ونسج عليه معظم السيناريوهات التي جَرَتْ لاحقاً في قضية كارلوس.

مشهد (58)

كاد كارلوس أن يجُنَّ حين وصلته معلومة من أحد مرافقيه بأن ”أبا نضال“، أحد أبرز قيادات الثورة الفلسطينية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي قد وصل الخرطوم. توقع كارلوس حين ألحَّ على ليلى وصلاح لمعرفة الضيوف القادمين للخرطوم أن القيادات الفلسطينية ورفاق نضاله لا بد أنهم سيحضرون المؤتمر. الآن ها هُم بدأوا في التوافُد، ولكن كيف السبيل للقائهم والإجراءات الأمنية ستكون مكثفة في مثل هذه المؤتمرات؟! كان كارلوس عاتباً على المنظمات الفلسطينية التي لم تدافع عن بقائه في الأردن بشكل كافٍ وأسلمه لمصير مجهول في السودان، ولكنه لا يزل يأمل في مساعدتها لمواصلة كفاحه ضد الإمبريالية الأمريكية في المنطقة… لا بد أن يجد طريقة للاتصال بـ”أبي نضال“لإيجاد أرضية جديدة للتفاهُم معه بعد خلافاتهم العاصفة التي شهدتها أروقة القضية الفلسطينية بعد بداية الحوار الفلسطيني الأمريكي، والذي قاد لخيانة القضية ورهنها بالكامل لأمريكا، بحسب كارلوس… فكر كارلوس في ”صدِّيق“ وليس هنالك الآن طريقة أخرى للاتصال بأبي نضال سواه، فعلاقته بالترابي تسمح له بأن يكون قريباً من أروقة المؤتمر بشكل يتيح له معرفة أين يقيم ”أبي نضال“ ليُرتب له اللقاء.

مشهد (59)

على ناصية الشارع بعيداً عن المنزل، كان الشاب الذي كُلف بحماية كارلوس، أو مراقبته، يقف منزوياً بموتره حين وصلته رسالة من كارلوس يطلب فيها إبلاغ صدِّيق بحاجته للقائه عاجلاً اليوم لأمرٍ مهم… استمع الشاب لرسالة كارلوس وانطلق لمباني الجهاز.

مشهد (60)

في الطابق الثامن من فندق ”صوفيتل“ الجميل بباريس بدأت المفاوضات بين الوفدين السوداني والفرنسي… الوفد الأمني السوداني برئاسة هاشم باسعيد، وبرفقته كلٌ من حسب الله عُمَر مدير الإدارة الغربية، إلى جانب صلاح سعد من الأمن الداخلي، ومندوب الجهاز بباريس محي الدين الخطيب…

صحيفة اليوم التالي