عادل الباز

عادل الباز يكتب.. مشهد (61)


ناقش الاجتماع المنعقد بفندق صوفيتل البندين الأساسيين، وتبقى ملف الإرهاب… بدأ السيد فيليب بارت بسؤال عابر حول زيارة ”أبي نضال“ للخرطوم وأسباب تلك الزيارة، ولما كان الوفد لا يعلم أصلاً بوجود أبي نضال الذي وصل الخرطوم ليلة مغادرته بدعوة من المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، أنكر باسعيد وجوده، وسارع باتهام الفرنسيين باختلاق قصص من الخيال لدمغ الحكومة السودانية برعاية الإرهاب، متخذاً كارلوس مثالاً على ذلك، مؤكداً أن كارلوس شخصيَّة وهمية من تأليف المخابرات الفرنسية، ولا وجود لشخص اسمه كارلوس، ناهيك عن أن يكون بالسودان أو خلافه، مشيراً إلى معلومات وصلتهم تفيد بذلك. هنا بدأ السيد فليب بارت بطي ملفاته مستنكراً حديث السيد باسعيد، قائلاً: «إن كارلوس معروف وموجود وليس بشخصية وهمية»… توترٌ رهيب خيَّم على جوِّ الاجتماع فجأة، لم يسمح باستمراره، وبالفعل رفع الفرنسيون الاجتماع وهُم في غاية الإحباط، إذ إن الملف الأساسي الذي كان مستهدفاً بالنقاش لم تعُد هنالك جدوى من مناقشته مع الوفد… غادر الوفد الفرنسي القاعة وهو في حالة اندهاش كامل، لا يقل عن استغراب الوفد السوداني من تصرُّف الفرنسيين… كان صلاح سعد هو الوحيد الذي يُدركُ مدى جديَّة الأمر الذي يناقشه الفرنسيون وهُم مُحقون فيه، وهو وجود كارلوس بالخرطوم، الأمر الذي لم يُتِحْ حديث باسعيد بدء الحوار حوله.

مشهد (62)

وقف الشاب أمام كارلوس كتلميذ ليخبره بأن صلاح سافر خارج الخرطوم لقضاء بعض الأيام مع أسرته وسيعود قريباً… نظر إليه كارلوس نظرة مريبة متشكِّكة في إفادته، ولكنه لم يتفوَّه بكلمة، إنما استدار إلى داخل المنزل ليجد أن الأمر ازداد تعقيداً… فكَّر في السبب الذي يجعل شخصاً مثل صِدِّيق يمتنع عن لقائه وهو يعرف أنه مدخله الوحيد للتعامُل مع الحكومة… ما أرَّقه أكثر هو احتمال مغادرة أبي نضال الخرطوم قبل أن يلقاه، ممَّا يُفوِّت عليه فرصة ثمينة لترتيب أمور كثيرة تخصُّه وتخص جماعته في الأردن… لم يكن أبونضال في تلك الأيام بالأردن، بل كان مقيماً بالعراق، ولكن بإمكانه معرفة ما يدور في الأوساط القيادية الفلسطينية واتجاهات الريح، وهو بحاجة لمعلومات لا يُمكن الحصول عليها إلاَّ إذا التقى أبا نضال… لا بد أن يتصرَّف بسرعة لأن الوقت يمضي في غير صالحه.

مشهد (63)

في مكتب الخطيب بالسفارة السودانية بفرنسا، أغلق صلاح الباب على حسب الله قائلاً : «معلومات الفرنسيين حول كارلوس صحيحة، بالفعل كارلوس موجود بالخرطوم».. صُعِقَ حسب الله من إفادة صلاح ونظر إليه ملياً، وقال: «من أين لك هذه المعلومة؟»…فروى صلاح لـ”حسبو“ القصة كلها، وقال له إنه لم يكن ممكناً الإفصاح عن ما يجري، وأن تلك رغبة الشيخ… هزَّ حسب الله رأسه مستغرباً وواصل صلاح حديثه: «المهم الآن لا يمكننا التراجُع عن خط باسعيد في الإنكار»… ولكن صلاح استنكر أن يمضي باسعيد في نفي وجود كارلوس أصلاً، فكارلوس ليس شخصيَّة وهمية، وكل الدنيا تعرف هذه الحقيقة، فماذا سيقول الفرنسيون الآن؟! قال حسب الله: سيؤكد هذا الإنكار شكوكهم، وقد يعتقدون أننا لا نرحِّب بالحوار حول كارلوس… كان هذا بالتحديد ما قاله الفرنسيون، وتيقنوا أن الوفد إمَّا أنه لا يملك المعلومات الكافية، أو أن الحكومة السودانية لا ترغب في الحوار حول ملف الإرهاب والإرهابيين، وعلى رأسهم كارلوس، مما يعني ألا جدوى للحوار مع هذا الوفد… هذا ما عبَّروا عنه لاحقاً حين ارتفع مستوى التمثيل الأمني للحوار معهم.

مشهد (64)

قالت بضجرٍ واضح:

– «لا يمكنني مقابلة الترابي ولن أذهب إليه مرَّة أخرى. لقد بدأوا معك في ترتيب الأمور بعيداً عني، ويعني ذلك أنهم لا يرغبون في وجودي في الصورة. الآن لا يمكنني أن أذهب إليهم لأسألهم عن ”أبي نضال“ أو غيره، أنا لا أرغب في الدخول في تعقيدات القضايا التي تخصك».

– بدا كارلوس مندهشاً للطريقة التي تحدِّثه بها ”ليلى“ لأوَّل مرَّة، ومن توترها البائن. قال لها بعد أن هدأت قليلاً : «ماذا جرى؟ ما القصة؟ هل موضوع ”بلين“ هو السبب؟»…

– قالت : «أنا لم أعُد أحتمل كل تصرُّفاتك، علينا أن نعيد ترتيب الأمور، علينا أن نواجه الحقائق. القضية لم تعُد بلين ولا لُبنى التاجي زوجتك التي لم تخطرني بوجودها بالخرطوم، وغير ذلك الكثير، المهم هذه شؤون تخصك، ما يخصني أنا هو إبلاغك باستحالة أن تستمر علاقتنا… لا بد أن نتوقف هنا. لقد سبَّبَت لي هذه العلاقة كثيراً من الأذى، ولا يمكنني احتمال المزيد… أنتَ الآن لا تحتاج لمساعدتي ولا مساعدة أي شخص آخر، أنت في ضيافة الحكومة وبحراستها، وهذا يكفي… أنا الآن واثقة لن يصيبك مكروه… علينا أن نفترق منذ اليوم، وأرجو أن تقدِّر أوضاعي ولا تتصل بي مرة أخرى».

رفع كارلوس بصره، ونظر إليها ملياً في وجهها، ونظرت إليه وقد تقطَّع قلبها حين رأت عينيه تبرقان بدمع أسود… استدار دون أن يتفوَّه بكلمة، وهو يُغالبُ إحساساً قوياً بالخُذلان… استغربت ليلى من رجلٍ يخوض طوال حياته مخاضات الدم ويغلبه الدمع!!

مشهد (66)

عاد الوفد الأمني للخرطوم، بعد خمسة أيام قضاها في باريس، لم يتوصَّل خلالها إلى شيء ذي بال. لم يعُد التعتيم على وجود كارلوس بالخرطوم ممكناً، إذ لا بدَّ من إبلاغ قيادة الجهاز، إبعاداً للحرج الذي يمكن أن يتسبَّب فيه غياب المعلومة. استقرَّ رأي صلاح سعد على لقاء الترابي؛ لإخطاره حول ضرورة تمليك الحقائق حول وجود كارلوس لقادة الجهاز. وبالفعل، بمجرَّد وصول صلاح إلى الخرطوم، عَمَدَ للقاء الترابي، الذي فاجأه بأن السفير الأردني قد أبلغه بوجود كارلوس بالخرطوم، إضافة لمعرفة الفرنسيين بوجوده. قدَّم صلاح تقريراً شاملاً حول وقائع ما جرى بباريس، مقترحاً أن يُملِّك قادة الجهاز المعلومات اللازمة عن وجود كارلوس بالسودان. لم ترُق الفكرة للترابي، لكنه لم يرفُض، إنما طلب من صلاح أن يؤجِّل الأمر، وأخبره بأن لديه ضيفاً خاصاً؛ عليه أن يلتقيه… كتب ورقة عليها الاسم: «”صبري البنا أبو نضال“- ”يحيى علي“ (الاسم الذي يحمله الآن بالجواز)…«المعلومات حوله طرف سكرتارية المؤتمر»، قال الترابي لصلاح.

مشهد (67)

بعد يومين من مغادرة الوفد الأمني لباريس، تمَّ استدعاء محي الدين الخطيب مندوب الجهاز بالسفارة، من قِبَلِ فيليب بارت، المدير العام لــ”d.s.t“ في ذلك الوقت. تمَّ إبلاغ الخطيب بدعوة للسيد نافع علي نافع، مدير الأمن الداخلي لزيارة فرنسا في التوقيت الذي يختاره.

مشهد (68)

قبل أن يغادر كارلوس بوابة المنزل، كان الشاب يتقدَّم نحوه ليُبلغه أن صلاح قد عاد وسيلتقيه غداً. بالرغم من أنه كان ينتظر هذا الخبر بفارغ الصبر، إلا أن حالة الحُزن الذي انتابته من تصرُّف ”ليلى“ بالأمس، إضافة إلى النكد الدائم الذي تسبِّبه له زوجته ”لُبنى“ منذ أن وصلت الخرطوم أفسدت عليه سعادته بلقاء صدِّيق غداً. وغادر كارلوس المنزل باتجاه كافتيريا ”مرمرة“.

مشهد (69)

صلاح أبلغ حسب الله أن الترابي يرى إرجاء إبلاغ قادة الجهاز لأمر غامض ينتظره، وأخطره بأن المطلوب منه مقابلة القائد الفلسطيني أبي نضال الذي وصل الخرطوم بدعوة من المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي. عليه، طلب من حسبو إبقاء الأمر سراً إلى أن يأذن الشيخ بالخطوة القادمة، رغم تقديرهما أن تأخير الإبلاغ ليس في المصلحة.

قبل أن يغادر صلاح مكتب حسبو، وصلت برقية عاجلة من فرنسا، من مندوب الجهاز في باريس يخطرهم فيها بلقائه مع فيليب بارت الذي قدَّم فيها دعوة لنافع علي نافع، مدير الأمن الداخلي لزيارة فرنسا. نظر الاثنان لبعضهما واتفقا على أن الأمور تزداد تعقيداً، وأن الفرنسيين يحاولون إكمال المهمة التي فشلت مع وفدهم. قال حسبو لصلاح: «بعد هذه البرقية، عليك إقناع الشيخ بضرورة وضع قيادة الجهاز في الصورة»… «بعد لقاء أبي نضال»… قالها صلاح وانصرف.

مشهد (70)

جلست ”بلين“ بالقرب من كارلوس تستمع إليه يشكو مما تجهله تماماً، وإن كانت تحسُّ به… عرفت بلين في حياتها المضطربة مثل تلك الشكوى، ونوع ذلك الخذلان الذي يتجرَّع مرارته كارلوس الآن. تذكرت بلين وهي تصُبُّ قهوتها المنعشة في فنجان كارلوس كيف أن رفيق نضالها الذي التقته في صِباها الباكر في ميادين القتال خذلها حين ساقته الأقدار ليصبح وزيراً بالدولة الجديدة التي انتزعوها من براثن منقستو هيلا مريام… اختلطت حكايات كارلوس في تلك الليلة مع حكايات بلين… عبَّر كارلوس عن مخاوفه من المخابرات السودانية وبتشكُّكه أن ”ليلى“ قد تم إرهابها حتى تنهي علاقتها به، ثم إن زوجته ”لُبنى“ لم تعُد تثق به، كما صرَّح لها لأوَّل مرَّة بأن المال لديه ينفد وليس بإمكانه طلب شيء من أي جهة داخل السودان. كانت بلين تبتسم «عجباً تلاقيهم».

حين وصلت بلين للخرطوم لأوَّل مرَّة، لم يكن بحوزتها سوى أقل من خمسين دولاراً؛ حصلت عليها من بيع بندقيتها. وطفقت تبحث لها عن عملٍ بلا جدوى لشهرين، إلى أن وجدت وظيفة في قهوة فندق كناري بالعمارات حيث تعرَّفت على كارلوس. الآن تعمل بهذه الكافتيريا بمرتب محترم يكفيها، خاصة وهي بلا مسؤوليات أسريَّة. كان كارلوس يستغرب لحال بلين، فبالرغم من جمالها الفتان لم تحظ بزوجٍ، وكلما سألها عن السبب تكتفي بالابتسامة وتقول: «مافي نصيب»!! بصعوبة يفهم كارلوس ما ترمي إليه.

مشهد (71)

في بهو الجناح رقم 5 بالهليتون، جلس صلاح في انتظار ظهور أبي نضال. كانت صورة أبي نضال مشوَّشة جداً في ذهن صلاح سعد، إذ ارتبط اسمه بالاغتيالات والتصفيات والاختطاف، وخاصة بعد أن قاد أوَّل انشقاقاته على حركة فتح في 1974، وبعدها مباشرة قاد اختطاف الطائرة السعودية، ونُسِبَ إليه اغتيال ”أبوإياد“، وعملية اغتيال رئيس المخابرات التونسية ”أبوالهول“، واختطاف طائرة ركاب مصرية، إلا أن أخطر عملياته التي يذكرها صلاح جيداً والتي أثارت ضجَّة في العالم العربي هي عميلة اغتيال الأديب المصري” يوسف السباعي“في قبرص عام 1987. تُرى ماذا يريد أبو نضال من الخرطوم الآن؟! ولكن السؤال الذي غاب عنه في لقائه مع الترابي، هو: ماذا تريد الخرطوم من أبي نضال ؟! الآن سيعرف..
فهاهو بانتظار وصول أبي نضال.
يتبع

صحيفة اليوم التالي