عادل الباز

عادل الباز يكتب.. مشهد (72)


وقف كارلوس متوتراً حين بدأت ”بلين“ تقدمه لـ”هانئ سعيد“، الدبلوماسي المصري الذي أطلَّ فجأة في الكافتيريا، قائلة بلكنة أجنبية: «”بديع“، رجل أعمال لبناني وصديقي»… سلم هانئ لأوَّل مرَّة على كارلوس وعرَّفهما بآخر معه قائلاً: «”حسن“، دبلوماسي بالسفارة المصرية»… كاد كارلوس أن يغادر المكان لولا أن هانئ كان أسرع منه بالمغادرة إلى ركنٍ قصيٍ بالكافتيريا… كان هانئ في حقيقة الأمر يمارس آخر مهامه بتسليم كارلوس إلى ”حسن“ الذي يستلم ملفاته الآن بالخرطوم، بدلاً عن هانئ. قالت ”بلين“:
– «لماذا انزعجت؟»…
– فردَّ كارلوس:«أنا لا أثق بالمصريين»!!
– بلين:«الحقيقة أنك لم تعُد تثق بأحد»!!
– ابتسم قائلاً:«أثق في الأثيوبيين لأنهم لا يكذبون ولا يخونون»…
– «قل لي، ماذا ستفعل؟»…
– «في ماذا؟»…
– «كنت تقول لي أنك تفكر بمغادرة السودان»…
– «يتوقف ذلك على لقاء مهم مع رفيق فلسطيني وبعدها سأقرِّر»…
– «أرجو ألا تتسرَّع في اتخاذ قرار… المطاردين من أمثالنا فرصهم ليست واسعة وليس متاح لهم التحرُّك بحرية، فدائماً نشعر بأننا محاصرون ونتشكَّك في كل شيء… على الأقل أنت هنا آمن والسودانيون طيِّبون لا يُؤذون أحداً،وعليك أن تفكر جيداً قبل أن تتخذ قرارك»…

أشار هانئ ناحية بلين فأسرعت إليه تاركة كارلوس مستغرقاً في التفكير… قال هانئ:«سأغادر الخرطوم خلال يومين، أرجو أن تعتني بصديقي حسن تماماً كما تعتنين بصديقك اللبناني (غامزاً بعينة لبلين)»… ابتسمت والتفتت لتجد كارلوس قد اختفى من المكان.

مشهد (73)

أطلَّ”أبونضال“ بصُحبة اثنين من حرسه مسلِّماً بحرارة على صلاح، مقدِّماً شكره للقيادة السودانية التي دعته للخرطوم، بالرغم مما في ذلك من مخاطر على السودان.

قال ”أبونضال“:«دعوتنا للسودان دليل على إيمان الثورة السودانية بعدالة قضيتنا ومشروعيَّة نضالنا، وهي بذلك تواصل دعمها للفلسطينيين في كل المحافل». أبدى أبونضالإعجابهبالجسارةالتيعُرف بها القادة السودانيون بمقارعتهمللإمبريالية الأمريكية، مؤكداً أن الأنظمة العربية كلها أنظمة خائنة، خانت القضية وباعتها في سوق النخَّاسة الأمريكي،مُثنياًعلىالعراقالذيلولااحتضانهالآنللمناضلينلما بقي للقضية صوت في الوطن العربي… ركَّز أبونضال عينيه على صلاح وهو يلقي عليه قنبلته:«عرفتأنكارلوستحترعايتكم»…صُعِقَصلاحتماماً من معلومة أبي نضال… كيف عرف أبونضال بوجود كارلوس بالخرطوم؟! لا يمكن أن يكون الترابي أخطره بذلك، ولا المخابرات الأردنية، لأن أبانضال ليس على وفاقٍ معها، الشيء الذي قاده لاحقاً لاغتيال المستشار والدبلوماسي بالسفارةالأردنية”نائبالمعايطة“ ببيروت في العام 1994… من أين جاء أبونضال بتلك المعلومة؟!

الدرس الذي تعلَّمه صلاح وهو يبدأ أولى سنوات وظيفته بالجهاز أن عالم المخابرات والمنظمات السريَّة له طرائقه العجيبة في الحصول على المعلومات وتداولها. ويذكر صلاح أنه تعلم درساً آخر في غاية الأهمية، وهو أنإنكارالمعلوماتليسطريقةمُثلى لخلق علاقة مع أجهزة المخابرات، إنما التعامُل الموضوعي هو أساس العمل المخابراتي السليم، وهو الدرس الذي سيطبِّقه بحرفية في تعامُلهمعالمخابرات الفرنسية في موضوع كارلوس لاحقاً.

مشهد(74)

استمع صلاح لأبي نضال بإصغاءٍ عجيب، مندهشاً من حماسته الهتافيَّة، وهي نفس الطريقة التي اعتادت عليها القيادات الفلسطينية في مخاطبتها للجماهير الفلسطينية والعربية، تلك اللغة المملوءة بالشعارات، والتي لا تقول شيئاً في نهاية الأمر!! أرهق صلاح في معرفة أهداف أبي نضال، فكلما سأله عن الطلبات المحدَّدة فاجأه بفاصل آخر من الشعارات… في النهاية، قدَّم أبونضال طلبين: الأول، يتعلق بإتاحة الفرصة للمناضلين للإقامة في السودان وفتح الفرصة لهم بإقامة معسكرات تدريبية… أما الثاني، فهو طلبه لقاء كارلوس، إن أمكن ذلك…

رغم أن صلاح قد تجاوز سؤال كارلوس أكثر من مرَّة، إلا أن أبا نضال حاصره به الآن… وحتى يُنهي صلاح اللقاء دون إعطاء إجابة محدَّدة، قال:«سندرس الطلبين ونرد عليك».

مشهد(75)

اقتنعت ”لُبنى“ زوجة كارلوس، الأردنيَّة من أصل فلسطيني، ألاَّ جدوى من الاستمرار مع كارلوس في السودان إذ إنه الآن يعيش حياة أخرى بعيداً عنها ولا تكاد تعرف عنها شيئاً. وأصبح كارلوس بالنسبة لها شخصاً غريباً. على الرغم من أن لُبنى عاشت معه أكثر من خمسة عشر عاماً، إلا أنها لم تره مشتتاً وبعيداً عنها مثل هذه الأيام. تذكرت لُبنى التاجي كيف أن والدها مات بحسرته حين أصرَّت على زواجها منه. كان عبدالسلام أدهم يرى أن كارلوس بطبيعة حياته شخصاً لا يمكن الوثوق به، وهو لن يجازف بابنته الوحيدة ويرهن حياتها بمصير إرهابي… دفع التاجي ثمناً باهظاً بسبب عدم موافقته علي زواج لُبنى من كارلوس. المخيَّمات الفلسطيينة بالأردن التي كانت تقدِّس كارلوس وتعتبره بطلاً من أبطال الثورة الفلسطينية فرضت عليه حصاراً وأصرَّت على مقاطعته والإضرار بأعماله حتى هوت به إلى قاعٍ سحيقٍ من الفقر. كان قلب ”لُبنى التاجي“ يتقطَّع على مصير والدها بسبب موقفه من زواجها، ولكن الوقت كان قد مضى، وأصبح كارلوس زوجها بعنادها وموافقة جميع من في المخيَّم آنذاك. هاهو كارلوس الذي ضحَّت بوالدها من أجله لا يكاد يُحسُّ بوجودها، لتعيش غربتين: غربة الوطن، وغربة داخل البيت… قرَّرت لُبنى التاجي مغادرة الخرطوم في أقرب فرصة، وحتى دون علم كارلوس، لأنه لن يتركها تغادر بموافقته.

مشهد(76)

في زاوية بمنزل الشيخ بالمنشية، قدَّم صلاح تقريره وطلبات أبي نضال للترابي. امتعض الترابي من كلا الطلبين ورفض بحدَّة قصة إقامة معسكرات في السودان للمنظمات الفلسطينية، فيما أحال الطلب الآخر لرغبة الضيف (كارلوس)… في ذلك اللقاء، أشار الترابي لصلاح انه قد أطلع بعض قادة الجهاز على طرفٍ من قصة كارلوس بالسودان، وترك له تمليكهم باقي التفاصيل. تنفَّس صلاح الصعداء، وفهم أن رفض الترابي له بإبلاغ قادة الجهاز رغبة منه في القيام بذلك الدور بنفسه تجنُّباً للمشاكل التي يمكن أن تحدُث له إذا قدَّم هو المعلومات حول وجود كارلوس دون غطاءٍ من ”الشيخ“… كان الشيخ قد استدعى نافع علي نافع عاجلاً بعد الاستماع لتقرير صلاح عن رحلة فرنسا، وتناقش معه حول موقف الفرنسيين من الوفد، وعلمه بأن الفرنسيين قد طلبوا زيارته لفرنسا…أيَّد الترابي الدعوة وبارك الخطوة. قال الشيخ لنافع: «الفرنسيون على حق، كارلوس وصل الخرطوم قبل شهور وآثرنا أن نحتفظ به بعيداً عن الدوائر الرسمية… تعاملنا معه عن طريق قناة أخرى. سأوجِّه صلاح لإطلاعك على التفاصيل، وأرى من الأفضل أن يُترك الأمر بعيداً عن الجهاز، ولا داعي في هذه المرحلة للإقرار بوجود كارلوس في الخرطوم… الموضوع متروك لتقديراتكم»…

هذه هي طريقة الترابي،فهو بعد أن يُصدر توجيهاته، يوهم المُوجَّهين بأنهم أحرار في التقدير… أخذ نافع المعلومة – رغم امتعاضعه – إلا أنه لم يحتجَّ، وترك الأمر يمضي دون ضجة.

مشهد(77)

جلس كارلوس في منزله بالعمارات مرتدياً جلابيته الشهيرة، يعتريه بعض القلق في انتظار وصول صلاح الذي تأخَّر على مواعيده، وتلك ليست عادته. أخيراً أطلَّ صلاح ضاحكاً:«لقد أصبحت سودانياً كاملاً بهذه الجلابية… ما رأيك في زوجة سودانية تكمل بها عقد زواجك الأممي؟! وبالمناسبة، مبروك الختان»… نظر كارلوس لداخل المنزل ليُلفت نظر صلاح بأن ”ستَّ البيت“ موجودة!!

– «من فيهم… لُبنى، أم هناء، أم…؟!»…
– زاغت عينا كارلوس مرَّة أخرى،فابتسم صلاح وغيَّر الحديث:«قالواليإنكتبحثعني،فهلمنجديد؟»…
– كارلوس:«هنالك أمور كثيرة مستجدَّة، ولا أعرف الآن كيف أتصرَّف»…
– «ماهي؟»…
– «الأمن المصري علم بوجودي هنا، وأنا قلق من علاقتهم بالمخابرات الفرنسية،فهي عميقة وأخشى أن يستخدمهم الفرنسيون»…
– «وهلتعتقدأنالفرنسيينلايعلمونبوجودك؟!»…
– «أعلمأنهميعرفونمنأوَّل يوملوصوليالخرطوم، ولكن لم أشعر بأنهميراقبونني…المرَّة الوحيدة التي أحسستُ فيها برقابةحينحدثتني ليلىعن مطاردتها بعربتين»…
– صلاح: «العربتان لم تكونا تابعتين للفرنسيين، إنما للمصريين والأمريكان»…
– كارلوسمندهشاً:«هذا يعنيأنكمكنتمتراقبونتحركاتي»…
– «لحمايتك»…
– «هلتعتقدأنالفرنسيينيمكنأنيجازفوابتصفيتيفي السودان؟»…
– صلاح: «لا أعتقد ذلك»…
– كارلوس: «عموما أنا الآن لا أشعر بالأمان الذي كنت أشعر به في الخرطوم»…
– صلاح: «بالفعل، عليك أن تكون أكثر حذراً، فدوائر علاقتك النسائية اتسعت… تحرُّكاتك في أنحاء الخرطوم ازدادت… الآن أكثر من جهاز مخابرات يراقب تحرُّكاتك،وأرجو أن تغيِّر الطريقة التي تتصرَّفبهالتجعلنانؤمِّنوجودكبطريقةأفضل»…
– «لماذالاتجعلواحمايتيمسئوليةالأمنالسوداني؟»
– صلاح: «الأمن السوداني لا علاقة له بوجودك بالسودان، وهو لا يعلم أصلاً أنك موجود… الذي طلب منا الاتصال بك هو وحده الذي يعلم»…
– كارلوس: «عرفتُ من أحد الرفاق أن أبا نضال بالخرطوم، ولي رغبة في لقائه… هل يمكنك ترتيب هذا اللقاء؟»…
– صلاح: «كنتُ مع أبي نضال هذا الصباح، وهو أيضاً يرغب في رويتك»…
– كارلوس: «يا له من رفيق… رغم أننا اختلفنا، ولكنه لم ينس تضحياتي في سبيل قضيتهم»…
– صلاح:«الأمر ليس سهلاً… يحتاج لترتيب من نوع خاص… دعني أرتِّب اللقاء وسأرسل إليك من يأخذك إلى المكان الذي سنحدِّده للقاء»…
– كارلوس: «هل هذه رغبة أبي نضال؟»…
– صلاح: «لا، هذه رؤيتنا نحن الذين نستضيفكما ونسعى لحمايتكما»…

ترك صلاح كارلوس حائراً من اللهجة الآمرة التي بدأ ”صدِّيق“ يحدثه بها. ولكن على العموم، هو يثق بصدِّيق إذ لا يمكن أن يكون قد غيَّر موقفه منه بهذه السرعة…لكن لماذا بدا صلاح أكثر حزماً؟! مخاوفه تزداد، وكما قالت له ”بلين“، إنه لم يعُد يثق بأحد!!

مشهد (78)

– قال حسب الله لصلاح عند الباب:«عمَّ الخبر كل القرى والحضر»!!
– «كيف؟»…
– «الشيخ أبلغ د. نافع بوجود كارلوس بالسودان»!!
– «أعلم ذلك الشيخ نفسه أبلغني أنه أوصل المعلومة للجهاز. ذلك ليس مهماً، المهم ماذا كان ردَّالدكتور نافع؟»…
– قالحسبالله:«سألني إن كانت عندي معلومة»…
– «وطبعاً أنكرت يا جبان»!!
– «طبعاً،أنا الدخَّلني شنو في بلاويك دي»…
– «وكان موقفو شنو؟!»…
– «عادي، تحدَّث طويلاً عن طريقة الشيخ في التعامُل مع الدولة، ولكنه لم يكن ناقماً عليك، وطلب اجتماعاً عاجلاً للوفد الذي كان في باريس، وطلب مني إبلاغك بتجهيز كل المعلومات والمستندات حول وجود كارلوس بالخرطوم»…
– قالصلاح: «سيكون موقفي محرجاً مع ”أبا سعيد“ وبقيةالزملاء…سيشعُرونأننياستغفلتهمولمأكن أميناً معهم»…
– «ياسيِّدإنتكنتبتنفِّذتعليمات”الشيخ“،ومَن منهم يجرؤ على مخالفته؟!»…

مشهد(79)

قبل أن تحُلَّ عليه لُبنى فجأة، كان كارلوس قد اتصل تلفونياً بزوجته السوريَّة ”هناء فاضل“ بفنزويلا، تلك المكالمة التي التقطتها المخابرات الفرنسية، ليُخطرها بأحواله بالسودان، وطلب منها أن تزوره لتقضي معه أياماً تُبدِّد وحشة مقرِّه الجديد، وأرسل لها لاحقاً العنوان بالكامل.

ما أن غادر صلاح باب المنزل، حتى توقفت عربة تاكسي بالباب، بداخلها ”هناء فاضل“ ليسأل السائق من اللبناني ”بديع“!!

مشهد(80)

بدأ صلاح يحكي قصته مع كارلوس منذ أن استدعاه الترابي لمكتبه، ليُخطره بوجود كارلوس بالخرطوم، وحتى اجتماعه معه بالأمس… استغرق صلاح أكثر من ساعة وهو يستعرض معلومات ملف كارلوس، بداية بالتعريف به سارداً تاريخه كأخطر إرهابي الآن في العالم، مشيراً لموقف الدول العربية منه نظراً لمغامراته ونسبة للابتزاز الذي يمارسه على بعض الأمراء والملوك العرب. ثم أفرد حديثاً خاصاً عن عمليات كارلوس بباريس، الشيء الذي جعله المطلوب الأول للفرنسيين. إلاَّ أن أهم معلومة أطلقها صلاح في الاجتماع هي ما قالته مادلين ألبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية حول معلومات عن وجود إرهابيين في السودان، مؤكداً أن الأمريكان يعلمون بوجود كارلوس منذ وصوله السودان، والآن يحاولون استخدام ورقته للابتزاز السياسي.

حين أنهى صلاح روايته، نظر الحاضرون في الاجتماع لبعضهم دون أن يتحدَّث أي منهم. في الختام أمَّن الاجتماع على ضرورة التعامُل الإيجابي مع الفرنسيين وفق خطة يضعها حسب الله وصلاح، كما كلفهما الاجتماع بمواصلة الاتصال بالفرنسيين لترتيب اجتماع د. نافع مع المخابرات الفرنسية في أكتوبر المقبل (1993).

يتبع

صحيفة اليوم التالي