عادل الباز

عادل الباز يكتب.. مشهد(81)


حينأخطركارلوس بخبروصول ”هناء فاضل“، زوجته السورية، وعرف أنها الآن أمام المنزل، كاد أن يجن… في ذلك الوقت، كانت لُبنى بالخارج، فقد غادرت المنزل لإنفاذ خُطتها الخاصة بمغادرة الخرطوم، فبدأت بترتب خطواتها بعيداً عنه… لسوء حظ كارلوس، وصلت لُبنى في ذات اللحظة التي صعد فيها لسيارته مصطحباً”هناء فاضل“، إلا أن لُبنى اكتفت بنظرة ماكرة لكليهما متفحِّصة ”هناء“، وأسرعت نحو بوَّابة المنزل.

قالت”هناء“لكارلوس:«ماقلتليشالأميرةويَّاك»!! لم يشأ كارلوس الرد عليها. أخذها لأقرب فندق من مكان سكنه،هوفندقكناري بسوق العمارات… ذات المكان الذي التقى فيه بلين لأوَّل مرَّة. شعر كارلوس بضيق لا محدود وأحسَّت هناء بأنها جاءت في الزمن الخطأ… هناء تعرف لُبنى جيداً، إذ التقتها حين كانت عروساً في صيدا بلبنان. منذ ذلك الوقت لم تعُد تطيقها، للمُعاملة الجافة التي لاقتها منها في أجمل أيام حياتها.

ترك كارلوس هناء في الفندق وعاد للمنزل متوقعاً عاصفة هوجاء كرد فعل من لُبنى على وصول هناء. وبالعكستماماً،استقبلتهلُبنىبهدوءغريب، وبدتمنشرحة وهي تحدِّثه عن متعة التسوُّق في سوق أمدرمان، وكيف أنها اشترت مقتنيات فضية وذهبية جميلة يندُرُ أن تحصُل علىمثلهامنأسواق الأردن… استرسلتلُبنى في حكاياتها ولم تتطرَّق لموضوع هناء، كأنها لم ترها أصلاً. يعرف كارلوس لؤم لُبنى التاجي، ولذا تركها دون أن يحاول أن يوضِّح أي شيء يتعلق بوصول هناء. أخرجت لُبنى التاجي تحفاً مدهشة قالت إنها اشترتها من محل للتحف بنمرة 2، واصفة صاحبته بأنها امرأة كريمة أهدتها تحفة غالية وجميلة مجاناً، وأخرجتها من الصندوق… نظر كارلوس باندهاش لتلك التحفة التي يعرفها جيداً وطالما أبدى إعجابه بدقة صناعتها حين كان يزور ليلى بمحلها. هي التحفة الوحيدة التي ظلَّ كارلوس يحتفي بها ويحملها بين يديه كطفل كلما زار محل ليلى. هل إهداء ليلى تلك اللوحة لـ”لُبنى“ مصادفة؟ أم أن ليلى تبعث له بتحية خاصة؟ ليلى رأت لُبنى أكثر من مرَّة ولكنها لم تتعرَّف عليها. ذات مرَّة قادها كارلوس لمحل ليلى دون أن يُعلمها بمعرفته بها. سأل كارلوس لُبنى ما إذا كانت تفكر بالمغادرة… فأجابت بالنفي، واكتفى كارلوس بذاك النفي.

مشهد(82)

وضعحسب الله وصلاح خُطة للتعامُل مع الفرنسيين، واتفقاعلى تقديمها لنافع قبل السفرلباريس الأسبوع المقبل. اعتمدت الخطة على مبدأين مهمَّين، هما: الإنكار التام لوجود كارلوس بالسودان وذلك لمعرفة حجم المعلومات المتوافرة للفرنسيين عن وجوده في السودان… والأمر الثاني، مناقشة قضايا سياسية مرتبطة بملفات أخرى بحيث يُفهَمُ موضوع كارلوس في إطار تعاطٍ مزدوج، وليس استغلال طرف لآخر.

مشهد(83)

تعانق الرجُلان طويلاً وذرفا دمعاً سخيناً… عشرُ سنواتٍمضتمنذأنغادركارلوسبغدادفياتجاهالأردن، لم يلتق فيها أبا نضال. كان يسمع بأخباره من بعيد. لا يرغب كارلوس في تذكُّر الأيام الصعبة التي عاشها بالعراق، كما لا يرغب في إثارة الخلافات التي قادت لمغادرته بغداد والتي كان أبو نضال طرفاً أساسياً فيها.

نظر أبو نضال لكارلوس بعينين مملوءتين بالدمع وقال: «زمن يا أبو سامي»… ابتسم كارلوس حين تذكر هذا الاسم الذي أطلقه عليه الرفاق في مخيَّمات لبنان وهو لم يكن قد تزوَّج بعد… تداعى المناضلان الغريمان ليغرقا في ذكريات امتدَّت منذ لقائهما في جبال اليمن في السبعينيات، حيث تلقى كارلوس أولى تدريباته على يدي أستاذه ”وديع حداد“، ثم تذكرا العمليات التي اشتركا فيها قبل أن يفترقا في نهاية السبعينيات، إثر خلافٍ عاصف…

قطع كارلوس حالة التوهان تلك بسؤاله لأبي نضال:
– «كيف حالك يا رفيق؟»…
– «كما ترى، الصحة تعبت ولم نعُد قادرين على العمل بذات إيقاع أيام الشباب»…
– «لم أعد أسمع أخباراً عن ما يجري هناك؟»…
– «ليس هنالك جديد، حركة فتح تراوح مكانها،ولا أحد يفعل شيئاً»…
– «أخبار صاحبك أبو عمار؟»…
– «ليس بيننا علاقة الآن، أتابع تحرُّكاته فقط، لكني لا أرى فعلاً إيجابياً لصالح القضية، وما أخبارك أنت، كيف تقضي أيامك في الخرطوم؟»…
– نظر كارلوس لسقف الغرفة وإلى الحيطان… فابتسم أبو نضال قائلاً:«ها دول السودانيين أمناء على أسرارنا، لقد جرَّبناهم… تعرف يا أبا سامي، والدي رحمة الله عليه كان يوصيني بالسودانيين، يقوللي إنهم أشجع العرب وأكرمهم، لقد حاربوا معنا في فلسطينوهمالآنيدعمونثورتنارغمأنهممحاصرون»…
– قال كارلوس: «لا أخشى السودانيين، ولكن العقارب التي يمكن أن تلدغنا كثيرة… أنا هنا في أمان ولكني غير قادر على التعاوُن مع الحكومة، حاولتُ لقاء الترابي ولكني فشلت، وهم يتصلون بي عبر وسيط ولكنهم لا يقولون لي شيئاً. الرفاق يسألونني الآن بشأن المعسكرات التي كنا نفكر في إقامتها، ولكني لا أستطيع التصرُّف بدون غطاء رسمي»…
– أبونضال: «اليوم أبلغوني أنهم لا يرحِّبون بإقامة معسكرات للمناضلين لظروف تخصهم»…
– كارلوس: «إذنماذاسأفعلهنا؟ ليخدمةعندك»…
– أبونضال: «على العين والرأس»…
– كارلوس: «لن يستطيع أحد أن يصل لأبي مدين غيرك… أرجو أن تبلغه بضرورة الإسراع للاتصال بي… أحتاج لترتيب أمور كثيرة»…ثم سلَّمه ورقة مكتوب عليها العنوان…
– أبونضال: «يوصل إن شاء الله… تحتاج شي؟»…
– كارلوس: «تكرم»…

ينهض أبونضال محيياً كارلوس، ويقول مودِّعاً:«دير بالك، لا تغادر السودان… تعرف إنهم يحاولون اصطيادك،فلا تعطيهم الفرصة»… ثم شدَّ على يديه ومضى.

مشهد(84)

بعد نصف ساعة من اللقاء، كان صلاح وحسبو يستمعان لوقائع ما جرى في اللقاء الذي جرى تسجيله بالكامل… لم يكن بالشريط معلومات خطرة سوى أنهم عرفوا أن كارلوس مُحبط وأنه يحاول إيجاد مخارج لمواصلة عملياته والاتصال برفاقه في لبنان.

– قال حسبو لصلاح:«هل لاحظت أن كارلوس محبط؟!»…
– صلاح: «تكاثرت عليه المصائب… الآن كارلوس محاصر تماماً من أربع نساء… ليلى يبدو أنها هجرته، وبلين الأثيوبية مستمرَّة في علاقتها به ولكنها تبدو علاقة سطحية… الآن في الخرطوم زوجتان لكارلوس، الأولى لُبنى الأردنيَّة، والثانية هناء فاضل السوريَّة، ولكن يبدو أنه يعاني من حالة فلس، فهو لا يخرج ولا يسهر كما اعتاد، حتى بعض أصدقائه من روَّاد نادي الخرطوم وبعض التجَّار انفضوا من حوله. يبدو أن المموِّلين توقفوا عن تمويله. آخر تحويلة وصلته قبل ثلاثة أشهر علىحسابرجلالأعمالبُشرىسامرمنمالطا»…
– حسبو:«دكتورنافعوصلالمكتب،نمشينقابلو»…
– صلاح: «الله يستر»…
– حسبو: «شيل شيلتك»!!

مشهد(85)

أخطر فيليب بارت رجُلُ المخابرات الفرنسي محي الدين الخطيب، مندوب الأمن بسفارة السودان بباريس، أنهم على أتم الاستعداد لاستقبال د. نافع في الوقت الذي حُدِّد في 15 أكتوبر 1993. وطلب منه إخطار د. نافع بأن المفاوضات ستختصر في البداية عليه ود. نافع.

في تلك الأيام، قبيل وصول الوفد الأمني السوداني لباريس، بدأت الصحافة الفرنسية تسرِّب معلومات حول قضية كارلوس وتعاود ضغطها على المحققين الفرنسيين وتتهمهم بالفشل في القبض عليه. جاء تسريب تلك المعلومات من أجهزة المخابرات الفرنسية نفسها، كما أشار حسب الله لاحقاً. فالمحققون الفرنسيون أمسكوا الآن بفريستهم ويحاولون تعبئة الرأي العام بإحياء الحوار حول موضوع كارلوس، حتى إذا ما استطاعوا إنجاز ما خططوا له، اعتبر الجمهور ذلك نصراً تاريخاً لهم. هدف آخر تلك التسريبات هو إرسال رسالة تحذير للضغط على الحكومة السودانية للتعاوُن في موضوع كارلوس، وإلا سيتم كشف الأمر للرأي العام، ومن ثمَّ دمغ النظام في السودان بأنه يأوي إرهابيين.

مشهد(86)

عرض صلاح وحسب الله الخطة التي عملا عليها ليومين على د. نافع، الذي أثنى عليها، مُبدياً بعض الملاحظات على تفاصيل التطبيق، ولكنه وافق بشدَّة على المبدأين اللذين احتوتهما، وهما: إنكار وجود كارلوس، والتعاطي بما لا يتيح لطرف استغلال الطرف الآخر. عرض حسب الله في ذات الاجتماع المعلومات التي بعث بها قبل ساعة الخطيب من باريس، والتي تؤكد على ميقات الدعوة، وطلب بارت للقاء د.نافع منفرداً مشيراً لما نشرته الصحف الفرنسية من تسريبات مقصودة حول كارلوس دون أن تشير إلى مكان وجوده، مرجِّحاً أن يكون مصدرها المخابرات الفرنسية نفسها بغرض تمرير أجندتهم في اللقاء المرتقب. انتهى الاجتماع وصلاح وحسب الله في غاية الدهشة… كان صلاح بالذات يحضِّر نفسه لعتاب قاسٍ من د. نافع بسبب إخفائه خبر وجود كارلوس عن الجهاز، ولكن لدهشتهما تجاوز نافع هذه النقطة تماماً، ولم يفتح الموضوع أصلاً، وتعامَلَ معهما بشكل عادي وهو يناقش الترتيبات المستقبلية للتفاوُض مع الفرنسيين. كان ذلك آخر اجتماع قبل مغادرة ثلاثتهم لباريس.
مشهد(87)

تراجعت ”لُبنى“ فجأة عن قرارها بمغادرة الخرطوم بعد وصول ”هناء“ وأعادت تقييم الموقف بعد أن أبلغها كارلوس بلقائه بأبي نضال، ووعد الأخير له بالاتصال بـ”أبي مِديَن“ لنقل رسالته، مما يعني أن الإمداد المالي سيصله قريباً. ”أبومدين“ أحد تلاميذ ”وديع حداد“، التقاه كارلوس في سبعينيات القرن الماضي في الحُديِّدة التي كان أحد أشهر رجال أعمالها. كان أبومدين هو أحد أشهر المموِّلين للحركات الفلسطينية، وكانت إشاعات قوية قد راجت أن أبا مِديَن يستثمر أموال الحركات الفلسطينية، وهي الاستثمارات التي تجد دعم ورعاية من الدولة اليمنية وخاصة أن أبا مدين من المقرَّبين لنظام علي عبدالله صالح.

قرَّرت لُبنى التاجي تأجيل فكرة مغادرتها الخرطوم على ضوء تلك التطوُّرات، فهي بحاجة للمال ثم لا يمكنها أن تترك أجواء الخرطوم لهناء فاضل لتستفرد بكارلوس.

صحيفة اليوم التالي