عادل الباز

ايام كارلوس في الخرطوم.. مشهد(88)


مشهد(88)

في سوق العمارات، بالقرب من فندق كناري، اشتبك كارلوس مع شاب حاول ترصُّد هناء أكثر من مرَّة. وصل كارلوس للفندق وقبل أن يغادر عربته شاهد شاباً يتحرَّش بهناء التي كانت تجلس بالحديقة الخارجية للفندق. أسرع كارلوس باتجاه الشاب ممسكاً برقبته ليبدأ العراك بينه والشاب… مرَّتين امتدت يد كارلوس لحزامه الخلفي متحسِّساً مسدسه، ولكن لا يلبث أن يترك ما فكر به. تمَّ فض الاشتباك وأخذ الشاب وكارلوس لمركز الشرطة بنمرة ثلاثة ليدخُل في تعقيدات غريبة.

مشهد(89)

في مركز الشرطة، بدأ الضابط يستجوب كارلوس ولكنه رفض الإجابة على الأسئلة قائلاً إنه لن يتحدَّث إلاَّ في وجود صِدِّيق… ولكن من هو صدِّيق؟! أخرج كارلوس من محفظته ورقة مكتوب عليها رقم تلفون ثابت أعطاه له صدِّيق للاتصال به عند الحاجة. التلفون لا يرُد. كان التلفون بمكتب خاص بالجهاز بالسوق العربي وسط الخرطوم لا يرتاده إلا صلاح وبعض المخبرين. حين يئس الضابط من الحديث مع كارلوس ولم يتم العثور على صدِّيق، أمر بإدخال كارلوس الحراسة، بينما أخلى سبيل الشاب بضمانة عادية. في أثناء تفتيش كارلوس عثر على مسدسين من ماركة ”سميث آند ويسُن“ عيار 9 مليمتر، وهو من أغلى أنواع المسدسات في العالم لدقة صناعته وتصويبه. عندها تشكَّك الضابط في أمر كارلوس، إذ لم يعُد الأمر لديه يتعلق بمشاجرة عادية، إنما بحيازة سلاح غير مرخَّص.

سأل الضابط كارلوس عن جوازه أو أي مستند يخصه،إلاَّ أنه لم يكن بيد كارلوس أي مستند وظلَّ يطالب بالاتصال بصدِّيق. وضع الضابط الرقم مرَّة أخرى أمامه وبدأ الاتصال بالهاتف بلا جدوى… في الأثناء، تصادف حضور أحد المُخبرين الذي كان شاهداً على الحكاية من بدايتها… نظر المخبر لرقم التلفون، فتيقن أن هذا رقم يخص المكتب الذي يرتادونه في السوق العربي، وبحسِّه أدرك أن الأمر له علاقة بـ”صلاح سعد“، فطلب من الضابط إمهاله حتى يصل لمشوار قريب ليفك لغز هذا ”الحلبي“… وافق الضابط وسمح لكارلوس بالجلوس في مكتبه.

مشهد(90)

في مكتب بالجهاز، وقف المخبر يحكي لصلاح قصة ذلك الحلبي الذي يحمل رقم تلفون المكتب بالسوق العربي ويحمل مسدساً ويطلب شخص اسمه ”صدِّيق“. أخذ صلاح المعلومات وأمر المخبر بالانصراف. وفي قسم شرطة الخرطوم (3)، حين أطلَّ صلاح من باب المكتب، لم يكد كارلوس يُصدِّق عينيه… لقد بلغ به اليأس مبلغاً، ولا يعرف كيف يخرج من هذه المحنة. مضى صلاح إلى حيث الضابط ليدير معه حواراً هامساً، ولكن الضابط لم يبدُ مقتنعاً بما قاله صلاح. أمسك صلاح بسماعة التلفون ليتصل بجهة ما، وبالفعل أمرت تلك الجهة الضابط بإخلاء سبيل كارلوس، وقد كان… بعدها التفت صلاح لكارلوس ليُسلم عليه، ويأخذه من يده إلى خارج القسم… تمَّ تسليم المسدسات لصلاح، ولم يسأل كارلوس عنها حتى اليوم.

مشهد(91)

استفزَّت هذه الحادثة النائب العام عبدالرحمن إبراهيم الذي وصل للقسم شرطة الخرطوم (3) بعد إخطاره بما جرى من إطلاق سراحٍ لمتهمٍ أجنبيٍ يحمل سلاحاً غير مرخَّص. ذهب النائب العام يشكو للترابي تجاوزات رجال الأمن للقانون، وهو ما يفتح الباب واسعاً لتجاوُزات كبرى إذا ما تُرك الأمر يمر دون عقاب. لم يفهم الترابي القصة جيداً لكنه قرَّر أن يستوضح صلاح من الموضوع الذي أغضب النائب العام. في المساء، حين ذهب صلاح للشيخ ليطلعه على السيناريو الذي سيجري التعامُل وفقه مع الفرنسيين، فاجأه الترابي بحكاية غضب النائب العام من تجاوزه للقانون… ضحك صلاح وقال:«يا شيخنا، عبدالرحمنلا يعرفأنهم قبضواعلى كارلوسشخصياً… الشخص الذي تمَّ القبض عليه هو كارلوس، وكان لا بد من التصرُّف بسرعة»… ابتسم الترابي، ولم يأمر بإطلاع النائب العام على الحقيقة.

مشهد(92)

وقف كارلوس أمام ليلى ليحكي لها ما جرى له بقسم الشرطة حتى تمَّ إنقاذه بواسطة صدِّيق. كانت تلك هي المرَّة الأولى التي يزور فيها كارلوس محل ليلى بعد أن قرَّرت إنهاء علاقته به. لم تكُن ليلى متحمِّسة له ولا تبدو متعاطفة مع قصته. حاول كارلوس بشتى الطُرُق استعادتها واستدرار عطفها، ولكنها لم تأبه لما يقول. لمَّا يئس، قال لها: «إذا كُنت لا ترغبين في رؤيتي، لماذا بعثتِ لي بالتحفة؟»… أدركت ليلى أن كارلوس استلم رسالتها ولكنها أنكرت أنها بعثت بأي رسالة له، وأنكرت معرفتها بزوجته أصلاً… توصَّل كارلوس إلى أن ليلى جادَّة في إنهاء علاقتها به، ولا جدوى من الاستمرار معها في أي حديث،فغادر المحل آسِفاً، وليلى شامتة!!

مشهد(93)

حين تأخَّر كارلوس لثلاث ساعات، استبدَّ القلق بهناء، فقرَّرت أن تذهب للمنزل حتى تستجلي الأمر وتعرف ما جرى لكارلوس. قد يستطيع رفاقه هنالك أن يتصرَّفوا. وصلت هناء بوابة المنزل ولم تجد أحداً من رفاقه، بل وجدت نفسها وجها لوجه أمام ضُرَّتها لُبنى!!

مشهد(94)

عاد كارلوس إلى المنزل مُحبطاً بسبب اعتقاله لساعات، وبسبب المعاملة القاسية التي تلقاها من ليلى. أضف إلى ذلك أن هناء خرجت من الفندق دون أن تترك رسالة له ولا يعرف إلى أين ذهبت!! خشي أن تكون قد ذهبت تبحث عنه، ولكن أين؟ كانت إجابة هذا السؤال على بُعد دقيقة واحدة منه… حين دخل كارلوس لصالون المنزل وجد منظراً في غاية الغرابة، إذ رأى هناء جالسة تخلف رجليها وتدخِّن سيجارة ولُبنى بقميص النوم تتمدَّد على الأريكة غير مبالية بوجود لُبنى. نظر كارلوس لهذا المشهد وكاد أن يتراجع من باب الصالون ولكن لبنى التاجي عاجلته بخبث قائلة:«تفضَّل، لك ضيوف قلقين عليك أوي!!»… نهضت لُبنى من على الأريكة ودخلت إلى المنزللتتركهما وحدهما، هناء وكارلوس… حكى كارلوس لهناء ما جرى له بعد مغادرته فندق كناري لقسم الشرطة. وسأل كارلوس هناء إن كانت لُبنى علمت بما جرى، فقالت هناء: «لم أقُل لها شيئاً، لم أتحدَّث معها وكنت أنتظر رفاقك لأسألهم عنك… انزَعَجْت، لم أعرف ماذا جرى لك»… قال كارلوس:«علينا أن نذهب الآن للفندق»…وبالفعل، قادها للفندق دون أن يقول كلمة للُبنى التاجي.

مشهد(95)

لقي نافع بباريس استقبالاً حافلاً، وأفرد له جناح في بفندق ”صُوفيتل“. لم يكُن أمام الوفد إلاَّ ساعتين بين وصوله لباريس وموعد لقاء نافع بفيليب بارت… كان الفرنسيون في عجلة من أمرهم للقاء نافع، إذ كان موضوع كارلوس عاد للأضواء مجدداً، وبقوة ارتدَّت الحملة التي أطلقوهاعليهم،واشتدَّالهجومالكثيفعلى جهازالمخابرات وخاصة على السيد فيليب روندو، الذي كان يتولى ملف كارلوس. بدأ الاجتماع بين الوفد السوداني الذي ضم د. نافع وحسب الله وصلاح سعد، بالإضافة لمحي الدين الخطيب مندوب الجهاز الذي عمل مترجماً للوفد، فيما ضمَّ الوفد الفرنسي السيد فيليب روندو وجيروم مدير مكتبه والسيدة كواليني من مكتب فيليب بارت… بدأ النقاش عاماً حول العلاقات السودانية الفرنسية وسُبُل تطويرها برؤية مشتركة… أظهر الوفد الفرنسي استعداده للعب دور إيجابي في القارة الأوروبية لتلطيف علاقة السودان مع دول الاتحاد الأوروبي التي كانت في غاية السوء، الشيء الذي منع السودان من الاستفادة من أربعمائة مليون يورو أقرَّتها اتفاقية لامي. التلويح بهذه الورقة كان مقصوداً من الجانب الفرنسي كأنه التقط أحد المبدأين اللذين بنى عليهما الوفد السوداني إستراتيجيته للتفاوض… ما أن أنهى السيد فيليب روندو حديثه، حتى أطلَّت كواليني من مكتب جانبي تطلب د.نافع ومعه المترجم (الخطيب)، إذ إن السيد فيليب بارت وهو رئيس جهاز مكافحة الإرهاب في الشرطة الفرنسية ”دى.تي.إس“ بانتظاره في الجانب الآخر من القاعة.

مشهد(96)

فوجئ حُرَّاس منزل كارلوس بتوقُف أربع عربات فخمة أمام المنزل ليترجَّل منها ضابط يرتدي زياً رسمياً. بلغ التوتر بحرس كارلوس مداه، فبدأوا يتحسَّسون مواضع أسلحتهم. قال الضابط:«نسأل عن منزل بديع»… اضطرب الحرس ولم يشأ أن يتحدَّث، وتبادلا نظرات حيرى…وانبعث صوتٌ من داخل العربة:«قُل له ”أبومدين“»… نظر حرس كارلوس لناحية الصوتواستدار أحدهم لداخل المنزل دون أن يتفوَّه بكلمة،ولم تمض دقائق حتى كان كارلوس يعانق ”أبامدين“ بالباب… أبومِديَن رجلٌ في الستين من عمره، بدا في غاية الأناقة والشباب… نظر إليه كارلوس أكثر من مرَّة قبل أن يأخذه من يده لداخل المنزل، فيما انزوت العربات على جانب شارع المنزل.

كانأبومدينقدوصلضمن وفدٍ يمنيٍّ عالي المستوى للسودان بغرض حضور مؤتمر الدول المطلة على البحر الأحمر، الذي تستضيفه الخرطوم آنذاك. لم يكن كارلوس ليُصدِّق أن أبامدين شخصياً يجلس ضاحكاً بجانبه في تلك اللحظات، كما لم يصدِّق أن أبانضال يملك هذه السرعة المُدهشة للوصول لأبي مدين… كان كارلوس يعرف أن أبا مدين أصبح أحد الشخصيات المهمة بالمؤتمر الشعبي الحاكم الذي يرأسه علي عبدالله صالح ولكنه لم يكُن يتوقع أن يكون قد تولى منصباً مهماً يتيح له تمثيل اليمن، وخاصة أن اليمنيين كانوا يشكون في أصل علاقاته من المنظمات الفلسطينية… قطع أبومدين توهان كارلوسقائلاً: «كيف حالك يا ”سالم“ (اسم يمني لكارلوس)، والله زمن يا رجُل. كنا ننتظرك باليمن قالولنا بالسودان. بارك الله في أبي نضال، لولاه لتُهت علينا»…

كان أبونضال قد بعث برسالة عاجلة لأبي مدين يخطره فيها بأوضاع كارلوس في السودان، ناقلاً إليه طلب كارلوس بالاتصال به. قال كارلوس: «والله يا أبا مدين ”جمايلك علينا كتيرة“»… فردَّ أبومدين: «يا رجل ما تقول مثل هادا الكلام… والله إنت الرجل يا سالم… كل رجال المقاومة الآن يذكرونك بالخير ويعرفون تضحياتك. والله هُم بدَّهم يفدوك بأرواحهم. حين خبَّرني أبو نضال أنك تسأل عني ما صدَّقت. كان الجماعة عندهم وفد للسودان قُلت لهم خدوني معاكم، ومش عارفين إني جاي ليش. والله لوكنتبأمريكاكنتوصلتك. أقوليك يا سالم، بالوفدرئيسالمخابرات،إنتتعرفو”ناصرالعليان“»…

تذكر كارلوس بصعوبة ناصر العليان، ولكنه لم يصدِّق أنه ذات صديقه اليمني الذي رافقه طيلة سنتين بمعسكرات تعز…

– قالأبومدين:«هوحاببيقابلك،ولكنيبدوفيصعوبة شوية، على العموم ناصر سيرتب اللقاء مع الجانب السوداني… الآن نحنا حاضرين، أطلب ما بدَّك».

مشهد(97)

بدأ فيليب بارت بدون مقدِّمات يتحدَّث عن وجود كارلوس بالسودان، مستغرباً من عدم معرفة الوفد السابق لتلك الحقيقة، وهُم الآن بصدد دعوة السودان مجدداً للتعاوُن فيما يخص كارلوس، لأن قضيته أصبحت قضية رأي عام ولا يمكن ترك الموضوع دون حسم… بدأ نافع يتحدَّث مؤكداً على موافقتهم من حيث المبدأ للتعاوُن فيما يخص كل القضايا المطروحة. كان نافع يغمز لمبدأ التعاطي…قالنافعبعدأن نظرللسيدبارت:«أنتم تقولون إن كارلوس الآن بالسودان ولكن معلوماتنا تؤكد وجوده بالأردن، إلا أن يكون قد وصل السودان دون علمنا، وإذا توافرت لكم معلومات عن وجوده بالسودان، فلا شكَّ سنتعامل إيجابياً معها». نظر فيليب بارت إلى ملفين أمامه قائلاً: «بالطبع لدينا ما يثبت وصوله للسودان»، وأبتع إفادته بأن أخرج فيليب صورة جواز لـ”عبدالله بركات“ سلمها لنافع، وصورة أخرى شمسيَّة له. تأمَّل نافع مابين يديه وقال: «سنرى كيف يمكن أن تسير القضية»… هذا نوع القول الذكي الذي لا يثبت ولا ينفي شيئاً،ففهم فيليب عبارة نافع وقال:«سيكون جيداً إذا تحققتم من المعلومات خلال اليومين القادمين بوجود الوفد حتى نستطيع أن نواصل الحوار حول القضايا الأخرى»… فهم نافع من جانبه الرسالة، وانتهى الاجتماع بعد تسليم واستلام ”الرسائل“ المتبادلة.

مشهد(98)

كان على صلاح وحسب الله التحقق مما كانا متأكدين منه تماماً، وهو وجود كارلوس بالخرطوم. كانا يعلمان أن الفرنسيين يراقبون اتصالاتهم وتحرُّكاتهم. وبالفعل قاما بإرسال رسائل للخرطوم يُدركان أنها مكشوفة للفرنسيين يطلُبان فيها من إدارة الجهاز مدِّهم بمعلومات من الخطوط الجوية السودانية بقائمة الركاب القادمين على متنها للخرطوم في التاريخ الذي حدَّده الفرنسيون، وطلبا التحقق من قوائم الداخلين للبلاد في هذا التاريخ من الجوازات، ثم طلبا من الأمن الداخلي البحث عن شخص اسمه ”عبدالله بركات“ في فنادق العاصمة المختلفة، أو الحصول على أية معلومة لأردني يُدعى ”عبدالله بركات“ محدِّدين 48 ساعة فقط لإرسال تلك المعلومات… كان صلاح سعد وحسب الله حتى ذلك الوقت مقتنعان بأن المعلومات التي سترسل من الخرطوم ستصل ليد الفرنسيين قبل أن تصل إليهم. كان صلاح يدرك أن عبدالله بركات اسماً لا وجود له بالسودان، إذ إن كارلوس غيَّر اسمه لـ”بديع“ حينما نزل بفندق الهيلتون… المفاجأة التي وصلت بعد يومين من السودان، أن عبدالله بركات بالفعل موجود على قوائم المسافرين على الخطوط السودانية القادمة من الأردن ولكن لا وجود له في لستة الداخلين للسودان طرف الجوازات في ذلك اليوم!! الاحتمال الوحيد الذي افترضه الأمن السوداني أن يكون عبدالله بركات قد دخل السودان بجوازٍ آخر غير ذلك الذي غادربهالعاصمة الأردنية!! ولكن الذي حيَّر الأمن أن قوائم المسافرينالداخلينللبلادلميكُنبهاسوىيمنييُدعى”سالم“،وهو الشخص الذي لم يعثروا له على أثر بالخرطوم!!

صحيفة اليوم التالي