سرير الحياة والقيامة… من ينقذ “العنقريب” السوداني؟
بدأ نجم “العنقريب” السوداني، ذلك السرير التقليدي المصنوع من الخشب الخام، والمنسوج بحبال سعف النخيل، في الأفول بخسارة معركته من أجل البقاء، بعد أكثر من 5 آلاف سنة ظل خلالها ملازماً البيت السوداني، كجزء أصيل من تراثه وثقافته حتى فترة السبعينيات القريبة؟
الآن، تحول “العنقريب” إلى مجرد أكسسوار في المناسبات، منزو في أحد الأركان، أو في المخازن، لاستخدامه عند اللزوم في الأفراح والأتراح معاً. وهي المناسبات التي كان مرتبطاً بها على الدوام.
رفيق الفرح والموت
تراجع وجود العنقريب تدريجياً مع تطور صناعة الأثاث الحديثة، وغزو الأسرة المعدنية من الحديد والألمنيوم أو من الأخشاب المشغولة، وتضاءلت قدرته على الصمود أمام أشكال الحداثة التي طالت جميع جوانب حياة السودانيين.
يدخل العنقريب في دورة حياة السوداني، ويلازمه منذ الولادة، مروراً بالختان، وحتى “الجرتق” (الزفاف التقليدي) للعروسين، فبعد الولادة تمضي به الوالدة فترة النفاس تيمناً، ويحضر دائماً بكل مناسبات الفرح كالعرس والختان. وهو رمز ليلة الحناء، تلك السابقة لليلة العرس، حيث يزين لتجلس عليه العروس أثناء الاحتفال، ثم يجلس عليه العروسان في حفل الزفاف، لكنه يظهر بقوة مع الممات أيضاً، فهو دون غيره ما يحمل عليه السودانيون موتاهم إلى المقابر، فيما يعرف بـ”عنقريب الجنازة”، ليرافق السوداني حتى رحلته الختامية إلى القبر، ولا يجوز عرفاً عند السودانيين حمل الجنازة على إلا على العنقريب. ولا تصلح لذلك أسرة الحديد، وهكذا ظل، حتى وقت قريب، رفيق زغرودة الزفاف وصرخة الميلاد، ووسيلة الوصول إلى المثوى الأخير، ليفرض نفسه ملمحاً أساسياً في كل تلك المناسبات.
على الرغم من انحساره في المدن، حيث بات مقتصراً فقط على استخدامه عند اللزوم كنوع من الأكسسوار الفلكلوري، لكن كثيراً من الأسر في الأرياف لا تزال متمسكة بالعنقريب، ربما للظروف الاقتصادية الصعبة، أو لتباطؤ هجوم الأثاث والمفروشات الحديثة، حيث تحرص الأسر على إخلاء مساحة له داخل المنزل، بعيداً من الغرف الرئيسة.
لم يشفع نفاذ العنقريب في كل مفاصل الحياة السودانية له في الاستمرار والبقاء، فمع تراجع وجوده في البيوت تراجعت أيضاً صناعته، وبعد أن كانت هناك سوق كاملة في مدينة أم درمان تعرف بـ”سوق العنقريب”، أصبح اليوم محدوداً في محال تجارية قليلة لا تزال حريصة على إبقائه جاذباً من خلال تلوينه وإضفاء بعض اللمسات الفنية الجديدة عليه، ومع تقلص وجوده تضاعفت أسعاره كثيراً نتيجة هجر الكثيرين من صناعة المهنة مع ضعف الإقبال والزحف المتسارع للأسرة الخشبية والمعدنية الحديثة.
إرث كرمة وشاخيتي
يعود التاريخ البعيد للعنقريب، بحسب كبير مفتشي الآثار، فوزي حسن بخيت، إلى فترة حضارة كرمة (2500-1500) قبل الميلاد، حيث وجدت في منطقة الدفوفة عاصمة المملكة، شمال السودان، أجساد ملوكها مسجاة عليه داخل غرف الدفن، ومحاطة بالقرابين.
ولا يختلف عنقريب مملكة كرمة الأثري كثيراً من حيث الشكل عن المستخدم حتى وقت قريب في عموم بيوت السودان، وفق بخيت، بخلاف أن عنقريب الملوك كانت تنسج فقط بالجلد، وهو ما يسمى “عنقريب القد”، ويتميز بوجود مسندة خشبية للرقبة كوسادة، بينما تتخذ أرجله شكل أقدام الأسد، فضلاً عن تزيينها بالذهب والمعادن النفيسة.
بدوره، يرى عباس الحاج، الباحث في التاريخ السوداني القديم، أن من رمزية العنقريب وطقوسه تبدت في اكتشاف مقبرة الكنداكة للملكة أماني شاخيتي منذ نحو 5 آلاف سنة، حيث كانت ممددة على عنقريب خشبي مع كامل مقتنياتها من العطور وأدوات الزينة أسفله، بينما يداها مخضبتان بالحناء، ومن هنا اكتسب “العنقريب” رمزيته المزدوجة في طقس الزواج والدفن معاً.
لذلك يمكن القول، بحسب الحاج، إن العنقريب منذ القدم كان هو السرير الأساس للسودانيين، وهو في الأفراح رمز للفأل الحسن، أما عند الموت فهو رمز البركة والغفران، لصلته بالسماء والمجموعة النجمية المعروفة في علم الفلك بـ”العنقريب”، وكذلك مجموعة ما يعرف بـ”بنات نعش”، ومعلوم أن النعش هو ما يحمل عليه جثمان الميت إلى المقابر، ويرجح أن من أطلق على تلك المجموعات هذه الأسماء هو سيدنا إدريس عليه السلام.
دلالة ثقافية
يرى البروفيسور محمد المهدي البشرى، رئيس قسم الفلكلور بمعهد الدراسات الأفريقية، أن للعنقريب وظيفة ثقافية ظلت ملازمة له منذ القدم، وارتبطت بممارسات معينة، بدأت منذ عهد مملكة كرمة، أهمها دفن المتوفى، وهو ما ظل سائداً حتى اليوم، باعتباره عادة تحولت بمرور الزمن، من الدفن عليه إلى حمل الجثمان فوقه، وفرضت تلك الدلالات نفسها بقوة على المجتمع، ثم كرّستها الممارسة، مشيراً إلى أن العنقريب في الوقت نفسه مؤشر ورمز للفأل الحسن عند مراسم الزواج التقليدية (الجرتق)، الذي لا يتم إلا على العنقريب الأحمر.
انحسر دور “العنقريب” كسرير في الحياة اليومية، بعد أن كان السرير الأساس للسودانيين، لينحصر دوره أخيراً، بحسب البشرى، في رمزيته الثقافية، وعند المناسبات المعلومة التي ارتبط بها بشدة، بأكثر من كونه مجرد سرير للنوم، لكن بعض البيوت السودانية تحتفظ به في المخزن لأغراض المناسبات، أما تلك التي لا تملكه، فتضطر لاستئجار واحد لأغراض الفرح أو عند الموت بغرض تشييع الجنازة، ما يؤكد أن الدلالة الثقافية للعنقريب ما زال لها حضورها.
يشير محيى الدين الأمين، الذي أمضى ثلثي عمره في صناعة وبيع العنقريب، وقد ورثها عن أبيه وجده، إلى تراجع الإقبال عليها في الفترة الأخيرة، بعد أن بهت بريقها، لكنه لا يزال يدافع عن العنقريب بقوله: “لا غنى عنه للبيت السوداني”، ولا يُخفي حسرته على ما أل إليه من خفوت وانزواء، على الرغم من مقاومته المستميتة لكل عوامل الانحسار والانقراض.
بين الأمس واليوم
تقول الحاجة محاسن علي الأمين (70 عاماً)، أن كل أسرة منزلهم في تلك السنوات كانت عبارة عن “عنقريب” في كل غرف وفرندات المنزل، أما في فصل الصيف، فيسهل حمل “العنقريب” إلى فناء المنزل (الحوش) ليوضع تحت ظل الأشجار من دون مرتبة أو فرش، وتتكفل مسامات الحبل بتوفير التهوية اللازمة للنائم. وبسؤال فئات مختلفة من شباب الجيل الحالي، اتضح أن بعضهم لا يعرفون ما هو “العنقريب”، فيما اعتبر آخرون أن اسم “العنقريب” ليس غريباً عليهم، لكن لم يسبق لهم أن شاهدوه.
وعلى الرغم من ذيوع اسمه لدى معظم السودانيين، فإن لـ”العنقريب” تسميات محلية عدة في مناطق وقبائل السودان، إذ يسميه النوبيون “أنقري”، والنيليون “الدقاق”، كم يطلق عليه “السيداب” عند قبائل البجا، وأبرز مميزاته، إضافة إلى قصره وصغر حجمه وخفة وزنه، أنه متين ويوفر تهوية جيدة عبر فتحات النسيج، فضلاً عن عدم تأثره بدرجة الحرارة المرتفعة.
وقديماً كان “العنقريب” يصنع من خشب السدر، وينسج بحبال من سعف النخيل، متخذاً أشكالاً فنية منتظمة متبادلة الشكل، أما الآن فقد بات يصنع من خشب السنط، وأنواع أخرى من الأخشاب، ومن أشهر “العنقريب” الموجودة حالياً عنقريب الخليفة عبد الله التعايشي، خليفة الإمام محمد أحمد المهدي، قائد الثورة المهدية، الموجود في محتف الخليفة بأم درمان، وهو من النوع (الملوكي) الكبير المنسوج بالجلد البقري.
جمال عبد القادر البدوي
إندبندنت عربية