صلاح الدين عووضة يكتب : الدومـــة!!
كانت وحيدة..
وحيدةً هناك تقف..
عند أطراف البلدة الجنوبية..
حيث لا شيء سوى شجيرات العُشر… وكثبان الرمال..
ويسمونها دومة ود صالح نسبة لأعرابي كان يسكن تحتها في زمانٍ مضى..
وقيل إنّه كان اسماً على مسمى… أي صالحاً..
والاسم يشابه – إلى حدٍّ ما – دومة أديبنا الطيب صالح الشهيرة… دومة ود حامد..
ونُسجت حولها الحكايات… والروايات… و(الرايات)..
والأخيرة هذه – بين القوسين – كان نسجها حقيقياً بقطع أقمشة مختلفة الألوان..
بعضها دمور… وبعضها دبلان… وبعضها بوبلين..
فما من شبر في جسد الدومة المسكين إلا وفيه ضربة منجل… أو طعنة خنجر..
والطاعنون – والضاربون – هؤلاء جميعهم عاشقون..
وكانوا يفعلون ذلك بوحي من تأثير خرافة قديمة عن (ربط المحبوب)..
فببركة ود صالح يُربط قلب المعشوق بقلب العاشق..
تماماً مثل ربط القماش ببعض الشجرة التي ليس وراءها سوى الخلاء..
وكانت (سيرة) العرسان تلف حول الدومة أيضاً..
ثم تُلف قطعتا قماش من ثوبي العروسين حول أي جزء منها..
وذلك حتى (يرتبط) الزوجان ببعضهما… حتى الممات..
وظلوا يفعلون ذلك حتى بعد أن حل بكري رباطه بعروسه بعد شهر من (الرباط)..
واستغلت ابنة كبير البلدة الحادثة لتدعم موقفها إزاء هذه الخرافة..
مدفوعة في ذلك بما تلقته من تعليم… وبما استقته من منابع أيديولوجية متطرفة..
وقيل إن أسرتها لم تكن راضية عن قناعاتها الجديدة هذه..
أما والدها – ذو النفوذ والثروة – فقد عدّ أفكارها هذه تمرداً على أعراف المنطقة..
وفي يوم فُوجئ أحد زوار الدومة برباط جلدي..
كان حزاماً جلدياً من شاكلة الذي يربط به الأساتذة – والأفندية – بنطلوناتهم..
ولاحظ وجود اسمين عليه بخط دقيق؛ علي…. وعلية..
وسرى الخبر في أنحاء البلدة سريعاً؛ بما أنه كان (رباطاً) غير مألوف..
سيما وأن الاسم الثاني كان معروفاً جداً… بعكس الأول..
فما من فتاة في البلدة كلها تحمل هذا الاسم سوى ابنة (الكبير) الصغرى..
وفوق ذلك كانت أشهر فتاة في البلدة بجمالها… وتمردها..
أما اسم علي فلم يكن يحمله سوى أستاذان… وأفندي..
أستاذ في المرحلة الابتدائية… والثاني في الوسطى… والثالث أفندي في المجلس..
ودارت حولهما الشبهات مثل دوران (السيرة) حول الدومة..
ثم انتبه البعض إلى أن هنالك رابعاً يحمل الاسم ذاته حل في البلدة حديثاً..
كان صديقاً لشقيق وكيل البوستة… وقدم لحضور زواجه..
ولم تأخذ تحريات عسس (الكبير) معه طويل زمن حتى أقر بفعلته..
وقال إنه شاهد علية… وأحبها… وأراد (ربطها)..
أراد ربطها على عادة أهل البلدة…. ولم يجد سوى حزام بنطلونه..
وسخر أهل البلدة منه إذ كان جاهلاً بمبادئ من أراد ربطها..
وقالوا إنه بفعله هذا – ذي التقييد – قد (قيد) أية فرصة لاحتمال أن تلتفت إليه..
وما دروا أنه نفسه كان يسخر من كل ما يعارض مبادئه..
بمعنى أنه وعلية – ابنة كبير البلدة – كانا ينتهجان نهجاً حداثوياً فيما يلي المعتقدات..
وأنيس منصور حين زار السودان استضافه التلفزيون..
وكان المُحاوِر – بكسر الواو – المذيع حسن عبد الوهاب ذا الثقافة العالية..
وسأله عن الحداثوية الفكرية… والأيديولوجية… والسياسية..
وكانت (موضة) ثقافية في أوج انتشارها آنذاك؛ سيما بالوطن العربي..
فحكى أنيس واقعة حقيقية… بمثابة طرفة..
قال إنه كان برفقة حداثوي – من أساتذة الفلسفة – في عربته ذات يوم..
وطفق صاحب الحداثة يسخر من أنيس لإيمانه بالخرافات..
لإيمانه بالنداهة… والأشباح… وأرواح السلة… والذين هبطوا من السماء..
يقول أنيس: وتركته يكمل حديثه الساخر كله..
ثم مددت يدي وقبضت على تميمة مدلاة أسفل المرآة الداخلية وسألته: ما هذا؟..
فجمجم – يقول أنيس – وتمتم… وهمهم… وغمغم..
والآن لنكمل نحن حديثنا ذا الصلة… حتى وإن بدت صلةً غير مباشرة..
فقد جيء بالحداثوي إلى (الكبير)..
فاستقبله… وضيفه… وأكرمه… واستمع إليه… ثم تركه يذهب..
وفي المساء سمع عبدون (العربجي) أنيناً من جهة الدومة؛ فتملكه الرعب..
ثم قاوم مخاوفه وأتى نحوها؛ وفانوسه يرتجف بيده..
فشاهد شخصاً (مربوطاً) إلى جذعها… ودماء تسيل على وجهه الوسيم..
ولم يكن سوى علي؛ بدون بنطلون… ولا حزام..
وضحى اليوم التالي سرى خبر آخر – لا يقل غرابةً – في البلدة..
فقد عُثر على رباط (أنثوي) في الدومة..
وكان حدثاً فريداً؛ سبح عكس تيار المألوف… كسباحة أفكار الحداثويين..
وقيل إنه يخص واحدة من حسناوات البلدة..
واحدة من علية القوم..
اسمها علية!!.
صحيفة الصيحة
لهذا هزمت حداثوية قحت بسلطانها بعرف جالس القرفصاء متكئا على جذع دومة ينكت الأرض بطرف عصاه