عادل الباز

عادل الباز يكتب.. مشهد (137)

«سنكون شفافين لأقصى درجة، فقط نرجو أن تتفهموا موقفنا وهو موقف سهرنا عليه طويلاً. بالأمس طرحنا رأينا للقيادة السياسية للدولة، ولحُسن الحظ وجدنا تقديراً للمسافة التي اجتزناها معكم.. وهناك تطلع لعلاقات فرنسية – سودانية متطوِّرة»… قال المحبوب…

«نحن مكلفون لنبحث معكم الخيار الوحيد المتاح لنا الآن وهو خيار مغادرة كارلوس. علينا بحث تفاصيله حتى لا نضيِّع الوقت في بحث خيارات طرحناها أمام القيادة، وأبدت تحفظات حولها »… قال حسب الله.

«نحن ندرك أن الخيار المفضل لكم هو خيار التسليم وللأسف بعد اجتماع القيادة بالأمس لم يعد هذا الخيار موجوداً على الطاولة»… أكد صلاح…

في الأثناء، كان فيليب روندو يسجِّل على أوراق صغيرة اعتاد أن يدوِّن عليها تفاصيل اجتماعاته، فدوَّن كل كلمة قالها الثلاثي المفوَّض. بعد أن أنهى الثلاثة كلماتهم، رفع الجنرال العجوز رأسه وأصلح نظارته وبدأ ينظر اليهم لثوانٍ، قبل أن يتوجَّه إليهم بحديثه: «سأكون صريحاً معكم… أخشى أن تكون حساباتكم السياسية ـ مع احترامي لها ـ بها كثير من الخلل… دعوني أشرح لكم القضية… كارلوس بالنسبة لنا قضية تتعلق بأمن فرنسا… لقد فجَّر ودمَّر وقتل مواطنين فرنسيين أبرياء، وسبَّب جُرحاً غائراً لدى الفرنسيين واهتزَّت ثقتهم في شُرطتهم وأمنهم، ولا شيء يمكن أن يعيد الاطمئنان إلى نفوسهم سوى أن يروا كارلوس أمام العدالة، وقتها سيرتاح أهالي الضحايا، ويستعيد المواطنون الثقة في أمن بلادهم… وهذه أشياء لا يمكن الاستهانة بأثرها على مستقبلنا. لاشك انكم تعرفون ماذا يعني أن يفقد المواطنون الأمن في بلادهم؟ أنا كنت جنرالاً محاربا في الحرب العالمية الثانية… كنا نقاتل من أجل هذا المعنى تحديداً… أنتم شباب وقد مات آلاف الشباب الفرنسيين في أعماركم لتبقى فرنسا آمنة، إذ لا قيمة لدولة لا توفر الأمن لشعبها. كارلوس الآن يعني لنا ذلك… إكساب أجهزة الأمن المصداقيَّة والقدرة على حماية مواطنيها بالوصول دائماً للمجرمين، ويعني أيضاً انه ليس بوسع أحد أن يرتكب جرائمه على الأرض الفرنسية ويفلت من العقاب… فرنسا لن تتسامح في ذلك… مرَّت أكثر من عشرين عاماً ونحن نطارد كارلوس… قد يرى كثيرون انه لا معنى لذلك، ولكن جوهر الحكاية أننا لا نطارد شبحاً اسمه كارلوس… إننا معنيُّون بأمننا، وكارلوس يمثل عنواناً لتلك العناية»….

أُرهق المحبوب عبدالسلام وهو يترجم هذا الجُزء الطويل من إفادة فيليب روندو، بينما جفَّ حلق روندو، فتناول كوب ماء بجانبه… «هذا بعض ما أود أن أقوله لكم»… واصل روندو: «أرجو أن تسمعوني جيداً، فلديَّ نقطتان مهمتان: الأولى، تتعلق بالخيار الذي وضعتموه أمامي الآن، وهو خيار إبعاد كارلوس عن السودان. هذا الخيار يفرض علينا تعقيدات شتى، أولها بحسب معرفتنا أنه لا دولة الآن على كوكب الأرض على استعداد لاستقبال كارلوس، فهو ليس أكثر من عبء على الأنظمة… لقد طاردناه في سبع دول وظللنا نحصُل على ذات النتيجة، وهي إبعاده إلى خارج حدودها، وللأسف ليس هنالك دولة ترحب به الآن على أراضيها بسبب انه لم تعُد له قيمة، فمنظماته انهارت كلها… لم يعُد كارلوس يخيف أحداً، كما انه لا يحقق مصلحة لدولة، بل سيعقد علاقات أي دولة تأويه مع العالم… تلك هي مشكلة أولى ستواجهنا، أو بالأحرى ستواجهكم حال استقرَّ رأيكم على هذا الخيار… المشكلة المعقدة الثانية، هي أن كارلوس واعي تماماً بهذه الحقائق، فلن يجازف بالخروج من السودان لأي دولة لأنه يدرك أن الضمانات منعدمة. أنا أعرف كارلوس، فهذا الملف بيدي لأكثر من عشرين عاماً… أعرف تماماً النفسية التي ينطلق منها كارلوس، والحذر الذي يحيط بكل تصرُّفاته… فحين يلوح خطر ما في أفق حياته، غالباً ما يتصرَّف بطريقة لا يتوقعها أحد… هل باستطاعتكم معرفة ردَّ فعل كارلوس حال إبلاغكم له بمغادرة السودان؟! أنا نفسي لا أستطيع التنبؤ بما سيجري في اليوم التالي… عليكم أن تكونوا حذرين… نحن لا نكاد نفهم جيداً طرائق استجابته في لحظة الخطر».

تابع روندو مكملاً حديثه: «دعوني أذهب بكم للنقطة الأخيرة، وهي موقف فرنسا… مؤكد أن الفرنسيين سيشعرون بخُذلان شديد من موقف الحكومة السودانية، والتي كانوا يتطلعون إليها بأن تعينهم في إغلاق هذا الملف الذي أثقل ضمائرهم بأوجاع كثيرة… بالطبع سيكون ذلك مؤشر سيء على عدم استعداد القيادة السودانية للتعاطي بشكل إيجابي بفتح آفاق العلاقات الفرنسية السودانية على مستقبل تتحقق فيه مصالح الأطراف كافة».

أخذ روندو نفساً طويلاً، وجمع قصاصات أوراقه الصغيرة من أمامه، ونظر لجيروم الذي أخذها منه إلى الشنطة… وقال: «أرجو أن أكون قد أوضحتُ لكم الموقف كما أتصوَّره… الآن ليس لديَّ المزيد لأقوله لكم…. عليكم أن تُمعنوا النظر في ما قلت… لستُم مطالبين الآن بمواصلة التفاوُض، وسأكون بالخرطوم لمدة 48 ساعة أخرى… أرجو أن أسمع منكم رداً مناسباً»…

كان المحبوب يعرف طريقة الفرنسيين حين لا يرغبون في مواصلة الحديث أو رغبتهم في إنهاء اجتماع ما…. عادة تترك الطاولة أمام المتحدث الرئيسي خالية تماماً وهو ما فعلة روندو… بغضب.. اقترح المحبوب رفع الاجتماع ومواصلته في الغد… انفضّ الاجتماع هناك، وترك الجميع وكأن على رؤوسهم الطير.. استخدم هذا الجنرال المدهش كل ما عرفه في تقنيات ومهارات في التفاوض… »كان يدرسها في جامعات فرنسا«.

مشهد (138)

– هناء: «صحتك ليست على ما يرام، عليك مقابلة طبيب»…
– كارلوس: «لا تقلقي، أنا بخير، فقط يضايقني تذكُّر أنك ستغادرين المنزل لأبقى وحدي… لم أعُد أطيق هذه الجُدُر وحدي… أشعر أنني في سجن… لم أحنَّ لدفء العائلة مثلما أحن إليه هذه الأيام»…
– هناء: «اقترحت بلين أن تدعو لُبنى للعودة للخرطوم للبقاء بجانبك، وخاصة إذا قرَّرت إجراء العملية»…
– كارلوس: «فكرتُ في ذلك، ولكن لا أعرف ظرفها، على العموم سنرى كيف ستسير الأمور»…
– هناء: «تبدو هذه الأيام منزعجاً، هل هنالك أي جديد؟!»…
– كارلوس: «لا جديد، ولكن زيارات صدِّيق، صديقي التي حدَّثتُك عنه، ازدادت بشكل مزعج، وكل مرَّة أشعر بأن له شيئاً ما يود أن يبوح به ولا يفعل»…
– هناء: «ولماذا لا تسأله؟»…
– كارلوس: «رجال المخابرات لا يحبون أن يسألهم أحد عن المعلومات، فلقد اعتادوا أن يحصلوا عليها ولا يبذلونها للآخرين… يمكنهم تسريب المعلومات بمزاجهم، ولكن الأسئلة تزعجهم… أنا أعرف طبيعتهم… هو سيقول، ولكنه متردِّد الآن، سأدعه على راحته»…
– مغيِّراً مجرى الحوار: «من الأفضل أن ترتِّبي حالك… لقد تبقت أيام قليلة على مغادرتك»…
– هناء: «ليس لديَّ ما أرتبه… شنطتي جاهزة… عليَّ مقابلة بلين قبل المغادرة»…
– كارلوس: «لابدَّ أن توصيها عليَّ»…
– هناء ضاحكة: «لصنع القهوة فقط؟!؟!»…

مشهد (139)

حين وصل ”حسن“، الدبلوماسي المصري إلى كافتيريا مرمرة، كانت بلين على أهبة الاستعداد لمغادرة المحل… استغربت بلين حضوره بعد انقطاعٍ طويل وفي هذا الزمن المتأخر من الليل… أدرك حسن أن الوقت غير مناسب للحديث مع بلين، ولكن السؤال الذي جاء به في هذا الوقت لا يحتمل التأجيل… التفت لبلين سائلاً عن ”بديع“ المستثمر اللبناني الذي اختفى ولم يعد يظهر منذ أيام في الكافتيريا، ولا في أي مكان… أخبرته بلين وهي تأخذ حقيبتها على كتفها متأهبة للمغادرة: «لا أعرف، ولكني سمعت أنه مريض». لم تُتِحْ بلين فرصة لحسن لسؤال آخر، ومضت لخارج الكافتيريا… احتار حسن في أمر بلين، ولكن الذي حيَّره أكثر كان موقف ”ليلى“ التي أجابته بحسم أنها لا تعرف شخصاً بهذا الاسم، وكادت تطرده من المحل دفعة واحدة. كانت السفارة المصرية بالخرطوم قد استلمت برقية عاجلة من القاهرة تسأل فيها عن آخر أخبار كارلوس، إذ أنها في ذلك الوقت كانت تستعد لاستقبال وزير الداخلية الفرنسي باسكواه، الذي وَضَعَ ضمن أجندة الزيارة موضوع كارلوس… كانت فرنسا بعد أن علمت بتعقيدات المفاوضات حول قضية كارلوس مع الخرطوم تفكر في ممارسة ضغط عليها بواسطة القاهرة، عسى ولعلَّ تسهم في إقناعها بتسيلم كارلوس… الآن ”حسن“ يبحث عن كارلوس ولا يعرف أين هو، ولا يمكن أن يرسل تقريراً يذيع فيه نبأ اختفاء كارلوس عن أعيُن المخابرات المصرية بالخرطوم، فتلك مصيبة بالنسبة له… قرَّر أن يذهب لمنزله في شارع 35 للتحقق رغم ما في ذلك من مخاطر، ولكن لابدَّ من تجشُّمها الآن.

مشهد (140)

وضع التيم المفاوض نصَّ حديث السيد فليب روندو أمامه، وبدأت عملية تشريح دقيقة للنص. كان صلاح والمحبوب وحسب الله يبحثون عن نقاط ضعف في المقولات التي جادل بها روندو… لم يخفَ عليهم أن للعجوز الجنرال خبرة لا يمكن الاستهانة بها، وأنَّ في منطقه ما هو مقنعٌ من وجهة النظر الفرنسية، ولكنْ قد يَضُرُّ بالمصالح والعلاقات السودانيَّة وبالفصائل الفلسطينيَّة.

– قال حسب الله: «هنالك ثغرة واضحة في إفادة الجنرال يمكن طرح نقاش حولها… يقول السيد روندو: إننا سوف لن نجد دولةً في كوكب الأرض على استعداد لاستقبال كارلوس… وهذه فرضية تقبل الخطأ. بإمكاننا إيجاد دولة توافق على استقباله، خاصة وأن لكارلوس الآن منظمات تعمل في ثلاث دول، هي: الأردن واليمن ولبنان… بإمكاننا إيجاد طريقة لإرساله لواحدة من تلك الدول على أن يتصرَّف معه الفرنسيون هنالك»…
– قال صلاح: «يمكننا أن نجادل بذلك، ولكن الحقيقة أن كل هذه الدول سبق وأبعدته عن حدودها، فكيف لها أن تقبل الآن؟ ولكن لماذا أصلاً أخذ موافقة تلك الدول؟ كارلوس وصل السودان دون موافقتنا، أي بإمكاننا إرساله منها أو غيرها دون الحصول على موافقتها».
– المحبوب: «صعب، لأن تلك الدول لن تسمح له إلا عبر إجراءات رسمية. كارلوس دخل السودان بلا تأشيرة ولن نجد دولة أخرى تسمح بذلك في العالم… ثم إن الدفع به لأي دولة بطريقة غير قانونية يمكن أن يسبِّب لنا إشكالات سياسية وقانونية».
– حسب الله: «المهم في هذه النقطة موقف كارلوس نفسه، هل سيوافق على الذهاب لأي دولة ودون أن يجد الضمانات الكافية؟!»…
– صلاح: «هو على كيفو!!»…
– حسب الله: «طيِّب، إذا ما على كيفو، ما نسلمو وننتهي… إذا القصة بالقوة يعني»…
– قال المحبوب: «الموقف الفرنسي أيضاً سيكون مهماً، لأن فرنسا بالتأكيد لا ترغب في تسليمه لأية دولة، ولن توافق على إبعاده لأية دولة غير متعاونة معها، أو يمكن أن تتيح الفرصة لكارلوس للاختفاء إلى الأبد»…
– صلاح: «تلك مسئولية الفرنسيين، ولا أعتقد أننا سننتظر موافقتهم إذا ما وجدنا دولة يمكن أن تستقبله»…
– حسب الله: «الغرض من طرح هذه النقطة هو أن إيجاد دولة ليس عصياً، فهنالك لا يزال احتمال قائم، والأهم أن بحث هذا الاحتمال، وإمكانية تحقيقه لابد أن يكون مهمة الطرفين، مهمتنا ومهمة فرنسا»…
– المحبوب: «هي نقطة جيدة، على العموم يمكن أن تطرح للحوار مع روندو، على الأقل سنعرف ماذا إذا كانوا مستعدين للتعاوُن في البحث عن تلك الدولة أم لا؟»…
– صلاح: «القضية التي انتبهتُ لها أثناء الحوار بالأمس، هي أن روندو ركَّز كثيراً على الأمن الفرنسي، وكأنَّ أمن الآخرين ليس مهماً بذات الدرجة… بمعنى، أن الفرنسيين الذين يطلبون منا الآن تسليم كارلوس بدعوى أن ذلك يحقق الأمن لمواطنيهم، لا يأبهون لأمن مواطنينا… مثلاً، إذا قُمنا بتسليم كارلوس غداً، فكيف نأمن ألاَّ تكون بلادنا مسرحاً لعمليات إرهابية انتقامية من الجماعات التي ينتمي لها كارلوس؟ وما أكثرهم… السوريون والعراقيون حين اكتفوا بإبعاده عن أراضيهم كانوا يتحسَّبون لتلك المخاطر… لماذا نعرِّض نحن أمننا للخطر إذا كان الجميع يرفضون هذه المغامرة. وإذا كان أمن الفرنسيين بهذه الدرجة من الأهمية، فما الذي يجعل أمن السودانيين ليس مهماً وبلا قيمة؟! فالمطالبة بتسليم كارلوس سيعرِّض أمننا للخطر»…

كاد المحبوب وحسب الله أن يُصفِّقا لصلاح لأن تلك النقطة كانت حاسمة ومقنعة لدرجة بعيدة، غير أنهما اتهما صلاح بأن جلساته مع كارلوس قد أثَّرت في أفكاره بشكل عميق!!

يتبع

صحيفة اليوم التالي