رأي ومقالات

قصة قصيرة.. مدنيييي …مدنييااااوو


(1)يلبس سرواله المتسخ ببقية طين الجداول وسكن حريق كمائن الطوب وعراقيه الذي لم يذق طعم الصابون منذ ان وضعه علي جسده النحيل وقد بلي و تمزق من الكتفين واهتري من الجنبات وبانت خيوط رتقِهِ بكل الوان الدنيا ..
يمشي حافيا كعادته فقدمه تابي ان تأطرها نعلات او تمنعها من تقبيل ثري الارض حواجز .. فقد تشقق القدم الحافي المفلطح منذ مولده وأمتلات فرجات شقوقه بكل انواع التراب والطين والحصي وبعض قاذورات دهسها وهو يمشي بخطواته المتسعة السريعة .. يدق الارض دقا .. مدني.. وهذا اسمه لايعرف للراحة مكانا .. ولد في عنت وتربي بمشقة وعاش في فقر في طرف قصي من قرية الدكة النائية البسيطة التي عرك اهلها شيٌ من كفاية وكثير من فقر .. يقتات ويقوت امه فاطمة من عمل كفيه الخشنتين الممتدات من ساعدين قويين وجسد طويل نحيف ..
هو رجل سدت في وجهه كل الوجهات الا وجه السماء المفتوحة علي بُعدها دوما لامثاله .. هو مثلا حيا لازدراء كل متع الحياة ونعيمها الرغيد لا تهفو نفسه للذة ولا تدعوه شهوة طعام فيجيب ..ابعد مايكون عن الرزيلة واعلي من دنايا البشر وخبثهم، قد نجا بنفسه عن دنياهم ، فلا ينازعهم شيئا وان غَلا، او يطالبهم بحق وان بخس ،فان انجز عمله علي اكمل وجه ،جلس علي الارض ينتظر اجره قل او كُثر ، فهو لايامل في الحياة غير ان يعود الي اٌمه فاطمة ببعض طعام يشبع جوعها ويقيم صلبها فينام جنبها كما اسلفنا هانئا مطمئنا كانما حيزت له الدنيا .. فملك زخرفها وامن مكرها فكاني به يناجيها ..يادنيا غري غيري ..
كان ثورة علي المجتمع الانساني البغيض الذي قتل فيه الانسان اخيه الانسان لا لعداوة الا لانهما قربا قربانا فتقبل من احدهما ولم يتقبل من الاخر فَفُتحت اولي فصول الدم الانساني الطاهر علي الارض فواراً بلا انقطاع وبرزت الخيانة والبغضاء والطمع والحسد بين بني ادم ..
كان مهملا لايلتفت اليه احد ..ولايهتم لوجوده كائن ..لا يسمع الا اذا صرخت عليه باعلي الصوت فهو اقرب الي الصمم او قل اصم ..
هو الفقر يدب علي ساقين بشريين تلفه اثمال بالية تنسدل علي كتفيه مزقا متهدلة لونها كلون التراب الاغبر يجرجرها علي ادناس الحياة واقذارها .. يسرع الخطي -علي تلك الهيئة- في الاعراس والمآتم حاملا صواني الطعام او جالسا علي الارض والابريق امامه ليغسل للآكلين اياديهم من بقايا طعامهم ..او بقايا معاصي اقترفتها اصابعهم المكتنزة المزينه بختم الفضه والذهب واياديهم الآثمة .. ما دعوه يوما ليآكلهم او يجالسهم او يشاركهم كوب شاي او يرتشف في صحبتهم بعض قهوة سوداء ..فالطعام لهم وحدهم وعَلية القوم يزفون زفاً الي الطعام وهم يتمنعون كبرا وادعاء .. وما جاءوا الا لينالوه بشرهِ الانسانية وجشعها وتتسابق اياديهم تتخير افضله .. اما مدني فله الفضلات من طعام القوم وعليه ان يجلس هناك علي الارض لتجمع له البقايا فيلتقم منها مايسد جوعه ويقيم اوده وما ان يستقر بعض الزاد في جوفه حتي ينفر شاكرا حامدا يلعق اصابعه و يمضي الي الجامع او داره في طرف القرية ليلقي بجسده المتهالك علي فراشه بقرب امه المكومة هناك ..
اما داره. ..فدعني اوصفها لك ..
اي دارٍ هذه .. هي غرفة – ان جاز لي تسميتها – من الجالوص القديم تشقق جدارها وانهار بعضه بفعل امطار في عام كثرت فيه مضي ..
قضت الارضة والقدم علي باب الغرفة ونافذتها الوحيدة فصارتا بقايا خشب هالك معلق علي الجدار ..داخلها عنقريب مهتوك بلا لحاف او وسائد يتكوم عليه جرم امه الهزيل فاطمة ، وبرش علي الارض وضعت عليه اثمال باليه يتمدد عليها جسد مدني حين ينام ..
علي بعد امتار من غرفة مدني وامه فاطمة ينام الجيران علي فرش ممهدة ممددة وثيرة ..ويتنعمون بغطاء ناعم دافي يقيهم برد الشتاء وقرص زمهريره ..لا يعرفون معني الجوع الا بما يجعلهم يمدون ايديهم للطعام ليسكتوه ..
هي الدنيا هكذا .. اباحت ان نمد ايدينا الي الاخرين فنقتلع حقهم بلا حق ونكنز ما لانحتاج .. ونمنع حقا لمحتاج .. ونكذب لننجو و نخدع .. و ننافق لنثري ..
كم كثر النفاق بين الناس حتي لتظن انه يحتاج منفردا ان يرسل الله نبي يرشد الناس الي تركه..
لا يحسن مدني الكلام ولا يجرؤ عليه فما هي الا همهمة او غمغمة وهو في الغالب لا يحتاج لها فليس له عند الناس مطلب ولا يريد ان ينازع حقا او يشرح امرا فهو في كل ذلك زاهد ..
ماتعلم القراءة ولا الكتابة وابي ان ينحو مع رفاقه الي الخلوة فيحفظ بعضا من القرآن الكريم لكنه كان اذا مادخل المسجد يمسك المصحف فيقبله ويقلب صفحاته كانما يقرأه وتجده مغرقا في تامل حروفه معجبا بفنون رسمه ..كان محبا لشيخ الامين ابن عمر .. شيخ الطريقة القادرية وامام المسجد الذي علمه سورة الفاتحة فهو يحنو عليه ويعطف ويهش حين يراه اذ كان يري ان فيه سرا من اسرار الله وخبيئة من خباياه جل وعلا جعلها بين الناس في الارض ..
( يتبع )
مدنييييي ..مدنياااااو
ابراهيم الخواض
(2)
استيقظ كعادته قبل اذان الفجر علي حركة امه فاطمة وهي تتحسس اشياءها مستهدية بضؤ قمر خافت اخترق حجب ظلام الغرفة من فرجات في سقفها ..فانحدرت خيوط من الضو الفضي الرقيق تشق الظلام وتضي سبيل من اعتادت عيناه علي ضؤ نور الكون ..
فانتصب واقفا مدني .. وهمهم بكلمات لعلها كلمات توحيد وحمد وتكبير .. او هي تحية صباح جديد تفهمها امه فاطمة .. ومضي متوضئا ليلحق صلاة الفجر في المسجد ..
حمل فاسه علي كتفه ومشي مسرعا الي سوق عطبرة القديم فأمامه نهار حار قائظ عليه ان يعمل خلاله ليشقق ساق نيم جاف لصاحب مخبز هناك ..
هو لايسمع مايقول الناس ولا يعلم مابهم فالسوق كله اليوم مائج هائج والناس في كلام ونقاش وايدٍ مرفوعة تهتز غضبا .. وهتاف وتصفيق وزغاريد ..فيرفع راسه ليري ثم يعود الي فاسه يضرب بها الجزع ليمزقه ..ويلملم الحطب اكوام..
المخبز اليوم لايعمل وعماله يقفون خارجه ينظرون الي الناس الهائجة فقد انعدم الطحين وشح وعجزت الولاية عن توفير مايغطي حوجة الناس من الخبز ويسد مابهم من جوع فخرجوا يسبون الوالي ويهتفون ضده ويعلنون تمردهم عليه بعدما بان عجزه عن توفير احتياج الناس من السلع الضرورية ..
وهناك قافلة تولول في متاهات الزمان ..
وبلا دليل ..
عمياء فاقدة المصير ..
تمشي الملايين الحفاة والعراة الجائعون ..
مشردون ..
في السفح في دنيا المزابل والخرائب
ينبشون ..
والمترفون الهائمون يقهقهون ويضحكون ..
لهف من الشهوات يجتاز المعابر والسدود ..
هل يسمعون ؟ صخب الرعود ..
صخب الملايين الجياع يشق اسماع الوجود ..
لايسمعون ..
جموع الناس الغاضبة تهتف وهي تتزايد وتطوف حول سوق عطبرة الكبير طلاب و صغار نساء ورجال نحاف جوعي تتجمع اعدادهم وتتكاثر فيرمي بعضهم الحجار علي رجال الشرطة ويفر هاربا وتبادله الشرطة رمي برمي وكر بفر .. بعضهم يشعل الحرائق هنا وهناك .. الدنيا اليوم فائرة والناس الوادعة غير الناس ..يفكر مدني .. كل ذلك لاجل رغيف خبز يؤدم .. اما ذاقوا طعم الجوع وهو ياكل الامعاء الخاوية الا من بعض ماء قارح يهدي غيظها ويسكن وجعها ..كم هو ضعيف هذا الانسان مستعبد لبعض شهواته.. اثير لبطنه .. ولئن لبس اغلي الثياب وفخيمها وارتاد من المجالس ارفعها مرتبة واكثرها نفاقا .. الا انه يتساوي اخر النهار او قل اوله مع المعدوم والفقير .. من اكل صنوف اللحم ولذيذ الفاكهة .. مع من ابتلع رغيف خبز حاف يسّكن به جوعه ويقيم به اوده .. جميعاً يتساوون في الانزواء الي المرحاض ليقضي احدهم حاجته جلوسا في زلة وانكسار فما بقي للنفس العالية الكاذبة اذ ذاك الا ان تخلع غالي الثياب وفخيمها وتتقرفص في انتظار ان تلقي بما في جوفها من طيب الطعام خراء ..ثم يخرج من المرحاض بعدما احسن ترتيب ثيابه الفخيمة وعدل معوجها متاففا مما القي من سوء بطنه النتن .. رافع الراس في كبر يمارس كل انواع النفاق والدجل والغرور ..وينظر الي البسطاء والفقراء في تافف وترفع كانه لم يكن الحين جاسيا الي الارض في انكسار يرجو ان يخرج الله قذارات مافي جوفه بسلام ..
‎تمتد شرارة الثورة في كل احياء عطبرة وقراها وتبتلع كل بيت وشارع ومسجد ونادي .. خرجوا من كل حفرة وانحدروا من كل مرتفع كالسيل الجارف لايبقي ولايذر .. تقودهم زرائع الضيق واحلام حياة كريمة املا في مستقبل واعد يجمع شتات ابنائهم لعيش كريم مستور ..
اعرفهم الضامرين كالسياط، الناشفين من شقا..
اللازمين حدهم، الوعرين مرتقى ..
أعرفهم كأهل بدر شدة، ونجدة، وطلعة، وخلقا ..
أعرفهم ان غضبوا مثل انفلاق الذرة ..
أو وثبوا فكهوي الصخرة ..
أو فتكوا فأسأل الصاعقة ..
أو زأروا فالحزم ملء الزأرة ..
الجن لا يحوشهم من شدة التعنت ..
تسوقهم إلى الردى زغرودة الفتوة ..
أو هاتف – ولم يسم – يا أبا المروءة ..
فيأكلون الجمر لا يرضون بالدنية ..
ومدني المسكين مكبا علي فاسه يضرب الجزع بقوة المحتاج الذي لا يلتفت الا ان يكمل مابيده من عمل ليحصل علي اجره صافيا اخر اليوم جنيهات تفي حوجته ..وهو في انغماسه في مشقته وتعبه ذاك لايسمع ولايري الا سن فاسه تشق الخشب في شدة وعنف .. الحياة كلها جهاد وشقاء ونصب .. كلها تمثلت في هذا المسكين الذي لايعرف قيم المال ولا حسابه ..ولا معني الذهب وخلب بريقه .. ولايفرق بينه وبين صفار النحاس ان اُحسن تلميعه ..
رفع مدني المسكين راسه ليري ماجري للناس الفائره من حوله .. وما ان استوي جزعه واقفا حتي سمع من اقصي الدنيا هتاف الجمع يناديه اوظن ذلك فالصوت بعيد عميق يطرق طبله اذنه الاصم .. مدننننني…مدنييي …مدنيااااو…مدنياااااو…
حسب المسكين ان من يعرفه يناديه ليساعد في حَمل ثقيل او في خدمهٍ مطلوبهٍ لايقدر عليها من نادي .. فتقدم نحو الجمع الهائج رافعا يده اليسري ملوحا لمن ناداه ممسكا باليمني عود فاسه .. خطوات ووجد نفسه بين الجموع الغاضبة مرفوعا علي الاكتاف والجمع يصرخ باعلي صوته .. مدنيييييي ..مدنييييي .. مدنيااااو .. مدنياااو .. ومدني يسال نفسه وهو يلتفت في ذهول وتساؤل مرفوعا علي اكتاف الناس وهم يسرعون ملوحين له .. لم ينادونني والام انا مرفوع علي اكتافهم ؟؟ ..يعود وينظر الي جزع النيم الذي يشققه فيجده يبتعد ويختفي وسط الجموع الهادرة المسرعة به الي المجهول .. والعسكر المدجج بالسلاح المتاهب لفض التجمع هناك ينتظر .. ساقه الجمع وسطه وهو لايدري رافعا فاسه ويده يجيل بصره في استغراب وبلة وحيرة..
ودوي صوت ..اثنان..ثلاثه ..
طلقات ..
سمعها مدني رغم صممه وثقل سمعه .. لكنه ماكان يعلم انها تشق المسافة والفضاء في اتجاهه ..
احس مدني بشي رقيق حار يخترق امعاءه الفارغ ..والدنيا تدور امام عينيه والفاس ينفلت من يده بعد ارتخاءها وهو يحاول الامساك به .. وفاطمة امه المسكينة تنتظر ..سقط الفاس من يده ..وترنح صدره وجزعه علي اكتاف حامليه وهم يسرعون به وتحسس بطنه واذا بالدم ينفر منها غزيرا ويخضب يده اليمني ..وتسيل قطرات منه الي لسانه العطش الي قطره ماء فتلثمه ..
اختلط الدم الاحمر بالوان خيوط الدنيا كلها التي جمعت رِتَق عراقيه الممزق القديم واحالت لونه المقبر الي لون زاهيٍ جميل شكل خريطة لوطن جريح مأزوم ..
فتهالك مدني ملقيا الي الارض مقبلا تراب وطنه الابي ورفع راسه ينظر الي السماء .. (اما قلت لكم ان كل الجهات قد سدت في وجهه الا وجه السماء )..
وانحدرت علي وجنته الجافة المغبرة دمعة سحيقة حارة اختلطت ببسمة صافية هنية اذ يري وجه امه فاطمة وخلفها ذاك الوجه الحاني الودود ..وجه شيخ الامين ..
انتهي

ابراهيم الخواض
Elkhwad@gmail.com