محمد محمد خير يكتب: الناس
أسرني شاعر عربي ولوع في بيت شعر له حين عاد بعد سفر طويل لدياره ووجد كل شيء خراب.)
فلا الناس بالناس الذين عرفتهم
ولا الدار بالدار التي هي أعهد
لكن طاقم شركة تاركو الذين اقلوني من القاهرة للخرطوم افحموا ذلك الشاعر المجهول فرحب بي كابتن الطائرة وطاقمه واعلنوا للركاب انها الرحلة الاولى لهذه الطائرة التي تتجه لاول مرة للخرطوم ودعوني لقطع ( التورتة) التي لم انل منها نصيباً بسبب مرض السكر فاستعضت بالسكر الذي كان يتناثر من ثغور المضيفات . هكذا بدا السودان منذ الوهلة الاولى ، الليلة يستقبلني اهلي ، ارواح جدودي تصحو.
في صالة المطار كنت اتفرس الوجوه الصبورة والعرق ودقة احتضان الفقر والامل العريض، متى يا ربي يأتي زمن يغمرنا فيه الموج فنهنأ ويغادرنا البؤس ?!
متى تذوب قطرات الضوء عتمات احداثنا ومتى يفهم السياسيون ان مهامهم ليست الهتافات والتحريض على مرافقة السراب .. متى نتعلم ان السياسة برنامج انهاضي وليس زعيقاً وكراهية تسيل من العروق .. حمالو الامتعة يتزيون باسمال مرفأة وينتعلون (السفنجات) لكن برق الانوفة يشع فيهم فلا يسألونك عن قرش عكس كل طبائع حاملي الامتعة في معظم مطارات العالم صدق ود المكي حين قال:
حتى صيحات الشهوة عند عواهرنا عذراء .. من اي طين (ساطك) المولى فصرت سودانياً.!
في شارع الستين تطاول اساي حين رأيت اكوام البلوك المقلوع بطريقة ( جذرية) .. تركته ثابتاً على الرصيف ومتئداً ومزدحماً بالنظافة.. هل يشمل ( التغيير الجذري) ارصفة الطرق ايضاً ام يكتفي بجيش مهني ذي عقيدة واحدة?!
انها المرة الاولى التي لن اقابل فيها كمال حسن بخيت ولا عيسى الحلو ولن ازور صحيفة ( الرأي العام) ولن التقى القدال بشوف العين ولا عثمان جمال الدين ولا خطاب حسن احمد ولن امازح الطيب مصطفى ولا صديقي المحامي حامد عوض ولن اضحك مع الضو احمد بابكر .. عادوا جميعهم للتراب.. فانظروا كيف صار هذا الثرى ثريا!
ولوعتي تصبح الاكبر لانني لن ازور سيدي الصادق المهدي واسمع احاديثه المستعذبات حين يستقبلني في القطية بعد ان يقذفني محمد زكي بابتسامة تخلخلني قبل ان اتماسك برؤية الحبيب الامام فيجلسني قبالة التمر والكركدي وفيض النيل الابيض من سمك العجل والفول المبشور و (البسمة الجميلة والبيض العيون).
بكيت الامام من كندا باسخى الدموع وصليت في مسجد صلاح الدين بتورنتو ورتلت من الايات ما فاضت علي الاشجان وفور وصولي اتجهت اليوم الثاني (لبيت الملازمين) لاراحم عبد الرحمن نجل سيدي الامام الذي كان يقرأ لي من شعري ما كتبته مديحاً لابيه ثم امتد بنا الحديث فشمل كل شيء.. الاحباب .. الراهن .. حلم الانتخابات ..الخارج .. الحرب الاهلية.. الجيل الجديد.. مستقبل البلد .. الخوف .. كنت اتفرس وجهه المنبثق من نطفة الامام كقنديل يضيء.
صحيفة الانتباهة