رأي ومقالات

أسوق هذا الدرس لقُرى وأرياف في مختلف أصقاع السودان، تصرّ بعناد أن تقيم في مجرى السيول ومستنقعات الأمطار


في أكبر فيضان للنيل تشهده الولاية الشمالية كان في العام ١٩٨٨ قضى فيها على الأخضر واليابس تكبدنا خسائر فادحة لم نشهدها من قبل ولامن بعد، بساتين الفاكهة الوارفة حقول النخيل والبرسيم والمحاصيل والخضروات، المنازل التي شيدت على أفضل ما يكون المرافق التعليمية والصحية أسواقنا محطات المياه مشاريعنا الزراعية، جميعها جميعها قضى عليها النيل الهائج بين عشية وضحاها.

عُدنا إلى نقطة الصفر بعد مجهود عدة عقود من الكدح والسهر وعرق الاجداد والآباء وتعاقب الأجيال، رضينا بالابتلاء وتعلمنا من الدرس القاسي الذي كان ثمنه كل ما نملك، وخرجنا بقرار صائب أن لانصارع الطبيعة ولا نعاندها فهي ستحطمك يوماً ما مهما كان كبريائك وشموخك واحتياطاتك وامكانياتك، وقد رأينا ذلك عياناً في دول متقدمة قامت بكل المستحيل ووضعت كل المحاذير ولم تسلم من غضب الطبيعة.

تعلمنا من الدرس المزلزل المنهك أن لانقف أمام عنفوان النيل في مجراه الذي يتمدد فيه مهما غاب عنه، وأن لاننخدع لطول غيابه من مرقده وإن بلغت عقود من الزمان، فحملنا ما تبقى من امتعتنا ويممنا شرقاً وغرباً تاركين الجزيرة “تنقسي” لنيلها وزرعها وضرعها.

كان القرار صعباً وصادماً لكثيرين أن يتخلوا عن مكانٍ نشأوا فيه وترعرعوا ألفوه وألفهم، وأن يفارقوا بيئة مخضرة دافئة كانت تحتضنهم، ولكن أمام عنفوان الطبيعة وغدرها لامجال للعاطفة.
حالياً نعيش في مأمن بعد حفظ الله من هيجان النيل الثائر، بعد أن تركنا له مجراه الذي لا ينساه، وجعلنا من الجزيرة ومساحات منازلنا القديمة للزراعة والحقول، نزورها صباحاً ونعود منها مساءً.

أسوق هذا الدرس لقُرى وأرياف في مختلف أصقاع السودان، تصرّ بعناد أن تقيم في مجرى السيول ومستنقعات الأمطار، دون أن تعي الدرس متكبدة في كل عام الخسائر والأرواح.

أبومهند العيسابي