الذكرى المنسية ورحيل غورباتشوف
قبل أربعة أيام، مرت الذكرى الثالثة، لتشكيل أول “حكومة بقيادة مدنية” للفترة الإنتقالية في السودان، وقبلها بنحو أسبوعين مرت الذكرى الثالثة أيضاً للتوقيع على الوثيقة الدستورية التي أسست للشراكة السياسية بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير، وأفسحت لهذه الأخيرة المجال لكي تشكل تلك الحكومة وتفعل في السودان ما فعلت. واللافت للنظر أنه ما من أحدٍ أتى على سيرة الاحتفاء بتلك “الإنجازات” التي طالما صدعتنا بها مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير وما تزال تطالب بإعادتنا إلى ذلك المربع !!
قرأت، قبل فترة، لأكثر من واحد من ناشطي قحت، “بوستات” يعددون فيها ما يعتبرونه إنجازاً لتلك الفترة وكيف أن الخير كان سيلُه يتدفق نحو السودان لولا أن أوقفه “إنقلاب ٢٥ أكتوبر”؛ فإذا كان الأمر كذلك لماذا يتجاهل أصحاب تلك “الإنجازات” الاحتفاء بها، وتذكير شعبهم – قصير الذاكرة – بما قدموه له؛ أم يا تُرى أنهم فضّلوا أن تُطوى تلك الفترة في ذاكرة النسيان والتجاهل؟!
لكن، ما العلاقة بين تلك الذكرى التي نسيها أصحابها أو تناسوها، وبين رحيل الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف وفق ما جاء في عنوان هذا العمود الصحفي؟ والإجابة هي ما سنسرده هنا من ملامح وأوجه للشبه بين الحالتين.
سواءٌ أكان زعيماً أصيلاً يريد الإصلاح، أو كان عميلاً استخدمه الغرب لدفع حائط الإتحاد السوفيتي المتهالك نحو الانهيار، فالثابت أن غورباتشوف راهن على علاقة حَسِبَ أنها ستغير مجرى التاريخ بين الشرق والغرب ووقّع عدداً من الاتفاقات مع نظيره الأمريكي رونالد ريغان أنهت الحرب الباردة وفككت حلف وارسو، وبموجب ذلك تعهد حلف شمال الأطلسي “الناتو” أنه لن يتمدد شرقاً. لكن الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وما إن اطمأن على تفكك الإتحاد السوفيتي وتفرده بزعامة العالم، حتى بدأ في الزحف شرقاً ليقترب من المجال الحيوي لروسيا الاتحادية، وهذا باختصار شديد هو السبب المباشر في الحرب التي بدأت في فبراير الماضي بين روسيا وأوكرانيا.
الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها الغربية خذلوا غورباتشوف وتنصلوا من وعودهم له وأعادوا زراعة الشك وسط الزعماء الروس اللاحقين وآخرهم فلاديمير بوتين، وأثبتوا بذلك أنهم لا عهد لهم ولا صداقة معهم إلا أن تتماهى في خدمة مصالحهم على الوجهة التي يرونها هم؛ وهو نفس ما حدث عندنا في السودان .. كيف؟
لثلاثين عاماً، حاربت الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها الغربية نظام الإنقاذ في السودان بحجة توجهه الإسلامي وتهديده لمصالحهم في المنطقة، وفصّلوا له جلباب الإرهاب وألبسوه له. وفي الأثناء بنوا شبكة علاقات واسعة ومتنوعة مع جماعات المعارضة السودانية وقدموا لها مختلف أشكال الدعم بغرض تأهيلها لوراثة النظام حين يرحل، ووعدوهم بالمن والسلوى، وبمشروع مارشال يُخرج السودانيين من الضيق الذي عاشوه في عهد الإنقاذ إلى بحبوحة من العيش. وتوهم المتوهمون أنه بمجرد سقوط النظام سترفع أمريكا اسم السودان من قائمتها للدول الداعمة للإرهاب وستأمر جماعات التمرد بأن يضعوا السلاح ويعودوا إلى رحاب السلام وستتسابق الشركات الأمريكية والغربية والاستثمارات الخليجية إلى أرض السودان حتى تفيض خزائن البنك المركزي بالعملات الأجنبية والسبائك الذهبية !!
كانت الولايات المتحدة وشريكاتها الغربية تضع أولوية التخلص من نظام الإنقاذ على رأس أجندتها، وكانت تعرف أن الوضع الداخلي في السودان معقد بما لا يكون مناسباً معه الدخول في برنامج “تحول ثوري”، فهي تريد إحداث هندسة شاملة للوضع تشمل السياسة والإقتصاد والمجتمع، وتريد أن تنجز ذلك على نارٍ هادئة، لكن معارضة الناشطين وبدلاً من أن تُعد نفسها لوراثة النظام ببرنامج حكم مقنع أمسكت في مقولة أولوية إسقاط النظام و”عارت” بها، لتنتج لنا شعار “تسقط بس” فلما وصلت إلى السلطة بضغوط هائلة من الولايات المتحدة وشركائها الاقليميين، حار بها الدليل.
لم يكن أمام الولايات المتحدة الأمريكية بُد من أن تتخلى تدريجياً عمّن أثبتوا فشلهم في فهم مُرادها، وقضت هي منهم ما أرادت، وأن تستجيب لنصائح شركائها الاقليميين في عدم الاندفاع وراء “وهم” التحول الديمقراطي، وهكذا بدأ الموقف الأمريكي يتحول تدريجياً ميلاً نحو الشريك الأقوى وصاحب السهم الأكبر في إسقاط نظام الإنقاذ، ومن المرجح أن نشهد في الأسابيع القادمة إعادة ترتيب للوضع السياسي في البلاد بما يجعل من تجربة حكم مجموعة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير مجرد ذكرى منسية، ويجعل افتراقهم والعسكريين أبدياً، وسيكتشف الناشطون أن أمريكا لا عهد لها، وأن أجندتها دائماً متحركة،
فهي كما تراجعت عن وعودها لآخر زعماء الإتحاد السوفيتي تراجعت عن وعودها مع ناشطي السودان،
والفرق فقط في أن ذلك استغرق عقدين من الزمان نظراً لثقل وزن روسيا بينما استغرق هذا عامين فقط نظراً لخفة وزن ناشطي قحت، الذين سيرددون على أنغام الراحل النور الجيلاني:
يا صحو الذكرى المنسية
من بعدك وين الحنية
بتعدي مواسم وتروح
والفُرقة بتصبح أبدية ..
العبيد أحمد مروح