رأي ومقالات

السودان وتحولات المرحلة المقبلة

بوادر حراك سياسي جاد تشهده الساحة السياسية السودانية مع تعيين السفير الأميركي الجديد في الخرطوم جون غودفري قبل أيام، لا سيما بعد تصريحه حول ضرورة تشكيل حكومة مدنية.

وكانت الأوضاع السياسية قبل وصول السفير الأميركي إلى الخرطوم تعاني وضعاً مسدود الأفق مع مبادرات باهتة من ترتيب “المكون العسكري” بهدف إلهاء الساحة السياسية المأزومة وإغراقها بمزيد من الأمور الانصرافية، مثل مبادرة “نداء أهل السودان” التي رعاها رجل الدين الصوفي الطيب الجد ود بدر إلى جانب مبادرات أخرى على النسق ذاته، وبعض المؤتمرات التي عكست طبيعة صراع تنافسي بين البرهان وحميدتي، مثل المؤتمر حول شرق السودان الذي سمي مؤتمر القضايا المصيرية لشرق السودان وغير ذلك.

وقبل أيام كان من المفترض عقد اجتماع غير رسمي بين قيادات من “قوى الحرية والتغيير” برعاية الرباعية، أميركا والسعودية وبريطانيا والإمارات، إلى جانب السفير الأميركي جون غودفري لبحث سبل إنهاء الأزمة السياسية.

وكان من المقرر أن يضم الاجتماع طرفاً من “المكون العسكري” وبعض قيادات أطراف “اتفاق جوبا” إلى جانب قيادات من “الحرية والتغيير”، لكن غياب “المكون العسكري” عن حضور الاجتماع وحضور عناصر لم تكن مدعوة في معية رئيس حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي للمشاركة في ذلك الاجتماع تسبب في إلغائه.

والسبب الذي دعا إلى انسحاب قيادات “قوى الحرية والتغيير” (المجلس المركزي) من الاجتماع المذكور هو رفضهم مشاركة أشخاص لم تكن قد وجهت إليهم الدعوة، الأمر الذي فسره أكثر من محلل بأنه إرادة من بعض القوى السياسية لإفشال ذلك الاجتماع المهم.

تمديد ألعاب الوقت

ويبدو واضحاً أن هناك إصراراً من “المكون العسكري” على تمديد ألعاب الوقت واللعب في الزمن بدل الضائع، متوهماً القدرة على تحقيق اختراق في الوضع السياسي المسدود بسبب الفعل الانقلابي ذاته يوم الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن تلك المحاولات تظل مجرد أوهام من طرف “المكون العسكري”، وكل المعطيات تدل على أن الوقت لم يعد في مصلحة المجلس العسكري إلا عبر القيام بإجراء واحد فقط وهو إنهاء الانقلاب.

وفي هذا الإطار الذي يرواغ عبره “المكون العسكري” سيبدو جلياً أن ادعاء العسكر نية العودة لثكناتهم حال اتفقت القوى السياسية السودانية على تشكيل حكومة، هو أمر يتصل بالمناورة ولا علاقة له حتى الآن بأي إرادة للانسحاب من العملية السياسية، كما صرح أكثر من مرة كل من الفريق عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو.

وفي العادة فحين تكون الأخطاء كارثية والتخطيط متصل بإرادة خفية للسيطرة التي ظل يضمرها “المكون العسكري” خلال السنتين الماضيتين من شراكتهم في إدارة السلطة الانتقالية مع “قوى الحرية والتغيير” سيكون التخلص منه أكثر صعوبة.

حلفاء “المكون العسكري”

وفي وقت يعلن فيه “المكون العسكري” أنه لا يريد الخوض في العملية السياسية كانت رغبته الواضحة في السيطرة هي السبب في خطيئة الانقلاب والإعداد له عبر حلفاء سياسيين، وحتى لو صدقنا بأن المكون العسكري جاد في الانسحاب من العملية السياسية فسيظل حلفاؤه السياسيون أكثر تمسكاً به وإصراراً على رفضهم لذلك التخلي.

والحلفاء السياسيون للمكون العسكري يدركون تماماً أن أي غياب حقيقي لذلك المكون عن إدارة السلطة السياسية في مرحلة مستقبلية تحت ضغوط أميركية أو دولية سيكون بمثابة كشف للغطاء عن موقفهم المتهافت، فمن ناحية يستعين “المكون العسكري” بتعلة الوقت ليوحي بأن جزءاً من القوى السياسية تريده في السلطة، ومن ناحية ثانية يحتفظ بهؤلاء الحلفاء في أية لحظة يتوهم أنها سانحة قد تأتي به لتسوية مع المجتمع الدولي، ليجعل منهم عناصر في حكومته المدنية المزعومة، لكن حتى الآن يظل الموقف الأميركي الحريص على تكوين حكومة مدنية وكذلك موقف الرباعية، بمثابة تأكيد على أن ما يفعله “المكون العسكري” غير مقبول بخاصة أنه حتى الآن لم تستأنف الولايات المتحدة مساعداتها الاقتصادية للسودان إلى حين تكوين حكومة مدنية معتبرة لاستئناف المرحلة الانتقالية.

ولهذا كان انسحاب قادة “الحرية والتغيير” من الاجتماع غير الرسمي بالخرطوم مع الرباعية، حين اكتشفوا غياب العسكر وحضور وجوه أخرى من حلفائهم في الاجتماع بمثابة رسالة واضحة للجميع بأن أي حوار جاد للخروج من الأزمة والانسداد اليوم هو فقط يكون حواراً من أجل إنهاء الانقلاب واستئناف المرحلة الانتقالية عبر تكوين حكومة مدنية جديدة.

إن المشكلة التي يعجز “المكون العسكري” عن استيعابها حتى اليوم ليست في أنه قد وصل إلى قناعة بعدم استطاعته حكم السودان، سواء من حيث تعذر ذلك ذاتياً وموضوعياً، أو من حيث إصرار الشعب السوداني على عدم عودة العسكر والإخوان المسلمين لحكمه مرة أخرى مهما كلفه ذلك، وإنما الإشكال يكمن في أن هناك بعض القوى السياسية الفاسدة التي توهم “المكون العسكري” بأن في استطاعته حكم السودان مع بعض القوى المتحالفة معه، ووضع كهذا إذا لم يتداركه الجميع ويحاولون الخروج من مأزقه فإنه مع مرور الوقت سيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه حيال المصير السياسي المجهول للسودان باتجاه الفوضى.

متلازمة العجز

اليوم هناك ما يشبه متلازمة للعجز تحكم جميع القوى السياسية في السودان إلى جانب العسكر، فمن ناحية لا يمكن بأي حال من الأحوال لتحالف “قوى الحرية والتغيير” أن يستعيد أبداً زخمه القديم حين فوضه الشعب صيف عام 2019 لتسلم السلطة في لحظة تاريخية كان بإمكان التحالف استثمارها على نحو يستنزف كل الإمكانات الإيجابية القصوى لذلك الزخم باتجاه تحقيق مكتسبات جادة وصارمة لمصلحة الثورة، ومن ناحية ثانية سمح انقلاب “25 أكتوبر” وما ترتب عليه من قرارات بتشجيع وتطبيع عودة كثير من الوجوه القديمة للإسلاميين إلى الظهور للعلن مرة أخرى، مما سيعزز ثقتهم بأنفسهم ومن ثم توجيه الحراك السياسي باتجاه رغباتهم وأهدافهم الممتنعة في ظل واقع محلي وإقليمي ودولي رافض لهم.

ومن ناحية ثالثة يدرك العسكر تماماً عجزهم عن أية إدارة للسلطة السياسية بمعزل عن مدنيين يتولون التعبئة السياسية بخبراتهم تحت إدارة العسكر، ولهذا فإن هذا الوضع المربك جداً هو الذي سمح لهذا السياق الغريب بولادة انقلاب ناقص وعاجز عن تكوين حكومة لإدارة شؤون البلاد لأكثر من 10 أشهر.

تعبئة الشعب السوداني

وفي المقلب الآخر ثمة إمكان نظري لكنه ضئيل لوحدة قوى الثورة وتعبئة الشعب السوداني مرة أخرى باتجاه صناعة التغيير، لكننا حين وصفنا ذلك الإمكان بأنه ضئيل فلأنه بدا واضحاً أن ثمة عجزاً أساسياً في العقل السياسي الحزبي لقوى الثورة السودانية يشل حراكها عن رؤية المصير السياسي، وهو مصير يمكن رؤيته بوضوح حال كان لذلك العقل السياسي قدرة على التفكير الموضوعي في المصلحة الوطنية المشتركة بدلاً من التفكير الحزبي الغرائبي الذي يلون المصلحة الوطنية بمكاسبه الفئوية الضيقة، فتكون النتيجة الجماعية لحراك الأحزاب السياسية هي تضييع فرصة تاريخية ثالثة للخروج من مأزق ظل السودان عالقاً فيه منذ انقلاب العام 1958.

والحال أنه في ظل هذه الامتناعات التي تعبر عنها كل القوى السياسية والعسكرية في السودان اليوم لا يخلو الأمر حيالها من مصيرين، إما مصير باتجاه التدخل الدولي وازدياد نفوذ الدول الإقليمية والقوى الكبرى لسد الفراغ الذي تعبر عنه متلازمة العجز، وفي هذه الحال ربما يفضي الأمر على المدى البعيد إلى تفكك السودان إلى دويلات وكانتونات بحماية إقليمية ودولية، وإما أن يفضي إلى المصير الثاني وهو الحرب الأهلية والذهاب باتجاه الفوضى الشاملة.

وبطبيعة الحال فهناك قوى سودانية، وتحديداً المؤتمر الوطني وعناصر نظام البشير، تشتغل على تحقيق أي سيناريو للفوضى والحرب الأهلية حال خروجها عن الحكم، لأن ذلك هو الضمانة الوحيدة لنجاة كل من أجرم في حق الشعب السوداني من عناصر نظام البشير، كما أن من لهم المصلحة في سيناريو الفوضى والحرب الأهلية هم الذين تورطوا في ارتكاب مجازر بحق الشعب السوداني، مثل مجزرة “فض اعتصام القيادة العامة” بالخرطوم في الثالث من يونيو (تموز) 2019، فما يجمع مصلحة هذه الأطراف في سيناريوي حكم السودان أو نشر الفوضى هو الخوف من أن انتصار الثورة سيعني بالضرورة إجراء محاكمات لكل من أجرم في حق الشعب السوداني، وربما لا يتعين علينا أن نكون متشائمين فيما نحن نرى ملامح مصائر محتملة لجميع تلك السيناريوهات التي يمكن أن تحدق بمصير الوطن في ظل هذه القوى السياسية العاجزة عن رؤية مصيرها السياسي المشترك، ناهيك عن الإمساك بذلك المصير.

محمد جميل احمد
إندبندنت عربية