هشام الشواني: خطاب تشارلز الذي أربك العلمانيين عندنا
خطاب الملك تشارلز الثالث الممتلئ بالعبارات الدينية، وحماية الإيمان الكنسي البروتستانتي خطاب يتموضع في سياق تطور الغرب العلماني، فالغرب من أجل نهضته كان لابد له من أن يصفي الجانب السياسي للميراث الكنسي، ليفتح المجال للسياسة المدنية بدلا عنه، فجاءت العلمانية في هذا السياق كنتيجة شملت السياسة والأخلاق والعلم. العلمانية بجانب الفردانية والنظر للتاريخ كخط تطور تقدمي، والرأسمالية تكون الأركان المركزية للحداثة الغربية.
لماذا احتاج الغرب لتصفية ميراث السلطة الكنسية من أجل نهضته الحضارية؟
ثمة إجابات كلها صحيح، منها أن سلطة الكنيسة كانت جزء من سلطة النظام الإقطاعي، وأيضا أن الدولة الحديثة والعقد الاجتماعي المدني جاء مع البرجوازية خارج فضاء الكنيسة، ومنها أن فكرة الحرية الفردية في ظل نظام سياسي شامل مثل الدولة الحديثة العلمانية كانت ستتعارض حتما مع نظام الكنيسة.
ما هي النتيجة؟
العلمانية ظهرت بداية كإصلاح طارئ داخل المسيحية، إصلاح يفتح الباب للدنيوي والزمني؛ والسبب هو أن بنية المسيحية تقيم تعارضا لاهوتيا صارما بين العالم الأخروي والعالم الدنيوي. لكن هذه الأزمة المركبة الناتجة من ضرورة معالجة الخلل في بنية المسيحية نفسها، جعلت من المعالجة نفسها معالجة معطوبة ومأزومة، كان حتميا إذن نشوء أزمة الأخلاق السياسية كما تنبأ ماكس فيبر بذلك، وأزمة الأخلاق الفردانية في المجتمع، ثم أتي عصر التشاؤم بالتطور -نيتشة- وتجلى أكثر في أدب ورواية الحربين، ثم أتي عصر ما بعد الحداثة والسيولة المطلقة ونقد الحداثة. وكل تلك المآلات كانت حتمية ومركوزة بداخل بنية الحضارة الغربية.
بالنسبة لنا هنا في العالم الإسلامي يغلب العجز عن خلق نظر تاريخي للتطور الغربي. فنشأت لدينا نخبة مقلدة منبهرة بالغرب، وترى الحل في خلاصاته: شعارات علمانية/ليبرالية/رأسمالية. أو حتى نقائضها في الماركسية وتنويعاتها المتعددة. نخبة مستلبة تظن أن الدين الإسلامي يحتاج ذات المعالجة التي تمت في تاريخ المسيحية قبل أكثر من ثلاث قرون. نخبة تقارب التطور الغربي بمعزل عن التطور الاجتماعي للرأسمالية وبعيدا عن بنية لاهوت المسيحية الكنسية.
وهذا جهل مركب لدى النخب الليبرالية بالواقع وبالإسلام الذي لا ينطوي على ثنائية العالم الأخروي مقابل العالم الدنيوي، بل يوحد حياة المسلم ويرى في الدنيا والطبيعة مجال فاعلية للفرد، فاعلية يحقق فيها دينه وواجباته بشكل أكثر اتصالا مع الفطرة والطبيعة البشرية المادية. وبذلك يمثل الإسلام في فلسفته هذه منبعا لأخلاق سياسية واجتماعية ستنقذ الإنسان من مأزقه المعاصر. وهنا فإن كونية وعالمية الحضارة الإسلامية ضرورية حتى للغرب نفسه.
واقع المسلمين متخلف لأنهم جزء من العالم ومركزيته الغربية، ولأنهم بعيدون عن الفاعلية السياسية بأصول وهوية تستعاد بشكل مبدع ومعاصر، بجانب ضرورة امتلاك الشروط المادية والعلمية والتكنلوجية للنهضة بالتحرر من التبعية المقلدة للغرب. وهذه عملية تاريخية مزدوجة لمشروع كبير، عملية لابد أن تقوم بها حركة دينية وسياسية وفكرية واجتماعية واعية.
خطاب تشارلز الثالث الديني يضرب فكرة العلمانيين الليبراليين في مقتل، خطاب مربك لهم فقد جاء ليقول لهم إن الدين حاضر وبقوة في الغرب، وفي حركته السياسية، وقد تموضع في سياق يشبه المسيحية، لكنه حتما لا يشبه الإسلام ومجتمعات المسلمين، ثم إن تموضع الدين بهذا الشكل في الغرب أفرز أزمة أخلاقية وروحية تضرب عمق العصر الحديث وإنسانه قي مقتل. حين نعلم ذلك لحظتها سنرى في الحزب الليبرالي العلماني البرامجي لدينا؛ مجرد لوحة مشوهة لتاريخ الغرب القديم، لوحة مستجلبة لن تحقق أي نهضة ترجى لمجتمعاتنا.
هشام الشواني