محمد محمد خير: حينَ صعدتُ الجسْر
في تشكيلٍ لصورة جمالية له، قال محمود درويش: أنا أول القتْلى وآخر من يموت. وأنا حينَ صعدتُ بعربتي جسرَ سوبا متجهاً للعسيلات. قلتُ: أنا أول مستفيد من الجسر، وآخر من ينكر هذا الفضل.
حينَ زار ابني الأكبر الزبير، السُّودان قبل عامين بعد عشرين عاماً قضاها مجبراً على تحمل خياراتي السياسية العدمية، متنقلاً بين مصر وكندا، بهره السودان. المحبة والعفوية والبساطة، وطعم الجذور والناس، والشمس والخالات والعمومة، والحياة السَّهلة، وبيتنا الذي يتدفق في عروق كل من فيه فصيلة دمه.
قرَّر الزبير بعد مشاورة أعمامه حين عاد لغوره الأول في تنقاسي، شراء أرض زراعية لتربية الأبقار والضأن، والعودة للسودان بزوجته التي تنحدر من سكان كندا الأصليين، الذين تعفيهم كل الحكومات الكندية من دفع الضرائب باعتبارهم السكان الأصليين، ووجد هذا الترتيب المستقبلي استجابةً مقرونةً بشوقٍ جارف من رشيل، تلك الهندية الحمْراء التي تتحرَّق لذلك اليوم الذي تأتي فيه للسودان وتسكن مزرعة العسيلات، وتكون أنيسةً للشياه، ومرافقةً للأبقار، وحفيةً بالطير. ومن جانبي أعطيتُ هذا الأمر أولوية قصوى، فأمضيت قرابة العام ونصف العام، أهيئ ذاك الفضاء لابني كي يسكنه، لكن بعد المسافة كان أرَقِي اليومي، فأنا اُضطر لقطع مسافاته البعيدة مرَّتين في الأسبوع، أتفقَّد العمال، وأتابع مسيرة أب سبعين، ذلك النبات السِّحري الذي لا يخلف ميقاتاً، فهو يقضي سبعين يوماً في الحقل، ثم يتضوَّع في السُّوق وضروع البقر، وينسكب لبناً ويرفد الأبقار باللحم الصَّقيل والسنكيت .
كانت تجربة ثرَّة، أضافت لذخيرتي اللغوية مفرداتٍ، جديدة لم تجر على لساني من قبل، وألتقيتُ بعمال زراعيين يأتون من كل أصقاع السُّودان، يشربون من التُّرعة، ويقتلون الثعابين كما يقتل السياسيون الأماني. كلامهم قليل، وليس لهم من متاع الدُّنيا سوى أمنياتٍ صغيرة، هي أن يحافظ أب سبعين على قوامه ونُضرته، حتى بلوغه مرحلة النُّوار، ولأجل هذه الأمنية تنفتح قلوبهم لفروعه، وتمتد أحلامهم لحصده.
كنتُ أتأخر عليهم أحياناً كثيرة، بسبب المسافة البعيدة، لكنني حين صعدتُ جسر سوبا في اليوم الثاني بعد افتتاحه، تغيَّر كل شيء، ركلتُ مسافة ثلاثين كيلومتراً ذهاباً وإياباً، فالجسر اختصر كل هذه المسافة، ومنذ اليوم التالي لافتتاح الجسر أصبحتُ كل يوم في العسيلات، فقد باتتْ المسافة أقرب من المسافة بين عيني وأنفي، وتعلقتُ بالمزرعة مثل تعلقي بالزبير، وعقيلته الكندية الأصلية وأصبح حديثي معه حول الجسر مثل أحاديث أبي حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، وصارت ريشيل تنطق كلمة سوبا، وأصبحت عبارة:( سوبا بردج) من إضافات هذا الجسر على ألسن الخواجيات.