رأي ومقالات

حديث المرخيات والتسوية السياسية


خاطب القائد العام الفريق أول البرهان ضباطه وجنوده بالمرخيات بأمدرمان في الثالث عشر من نوفمبر 2022م، والخطاب الذي تناقلته وسائط الإعلام بالداخل والخارج أحدث جدلا واسعا، ودار لغط كثيف حول مراميه ومعانيه وأثر ذلك في مستقبل العملية السياسية التي تجري الآن في السودان، خاصة وأن لقاء المرخيات جاء بعد أيام من حديث سابق للبرهان في منطقة حطاب ببحري وتشابهت كلمات الخطابين بشكل كبير، كما تشابها في النقاش الواسع الذي دار بعدهما، لجهة أن البلاد تمر بمرحلة مخاض عسير وعملية سياسية أكثر عسرا يخشى كثير من المشفقين ان تؤدي إلى عملية (قيصرية)، هذا إذا استصحبنا أن (القياصرة) ليسوا بعيدين عن المشهد السوداني كثيرا.

خطاب البرهان جاء بعد يوم واحد من مسيرة الكرامة الثانية التي دعا لها نداء السودان أمام مكاتب الأمم المتحدة يوم السبت الثاني عشر من نوفمبر 2022م، ونجحت المسيرة نجاحا باهرا وشاركت فيها جماهير كثيفة ضاقت بها الشوارع أمام مقر الأمم المتحدة، وتدفقت في الشوارع الجانبية، وحملت المسيرة رسالة واضحة رافضة للتسوية الثنائية المزمع عقدها مع قوى الحرية والتغيير لإعادتها للسلطة على خلفية الدستور الذي كتبته لجنة تسيير نقابة المحامين ـ أو كُتب لها في بعض الروايات ـ وهو دستور علماني كامل الدسم ووجد استهجانا ورفضا واسعا من قطاعات الشعب السوداني كان آخرها بيان مجموعة من علماء ودعاة السلفية في السودان الذين أصدروا بيانهم قبل يوم واحد من المسيرة وتناقلته وسائط الإعلام على نطاق واسع، بل وتحدث أحد قادة السلفيين من الذين أصدروا البيان في مسيرة الكرامة الثانية.

وعودة إلى خطاب البرهان في المرخيات وعلاقته بالتسوية السياسية القادمة، ماذا حمل الخطاب من دلالات في هذا الاتجاه؟ الحقيقة أن خطاب البرهان كرر تحذيرات للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني بالابتعاد عن الجيش والقوات المسلحة، لكنه أضاف هذه المرة الشيوعيين والبعثيين بالاسم وهذا هو الجديد في خطابه هذه المرة، إذ لم يحمل خطاب حطاب السابق تصريحا باسم حزب سياسي أو مجموعة سياسية سوى الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، فما الذي يجمع بين هؤلاء الإسلاميين واليساريين لتشملهم كلمات البرهان في خطاب واحد؟ الحقيقة أن الذي يجمع بينهم غير أنهم سودانيون، أنهم رافضون للتسوية السياسية القادمة إذا جاءت وفق دستور لجنة تسيير نقابة المحامين ومشروع دستورها الذي أسمته مشروع الدستور الانتقالي لعام 2022م، والمعلوم طبعا أن منطلقات الإسلاميين واليساريين ـ

الشيوعيون تحديدا والبعثيون ـ مختلفة في رفضهم لمشروع الدستور الانتقالي لعام 2022م، فالإسلاميون يرفضون مشروع الدستور لأنه أساسا دستور علماني، أما اليساريون فيرفضونه لأسباب أخرى، منها أنهم لم يشاركوا في صياغته، ومنها أنه لم يناقش في لجنة التسيير ولم يُدع لاجتماع أصلا لمناقشته كما ذكر ذلك أحد اليساريين من أعضاء لجنة التسيير نفسها في بيان شهير أصدره قبل شهور.

ماذا يُفهم من خطاب البرهان في المرخيات حول مشروع دستور لجنة تسيير نقابة المحامين، أشار البرهان في خطابه أن هناك مشروع، وأن الجيش لديه تعديلات عليه خاصة فيما يلي أمر الجيش، ولكن ماذا بشأن علمانية الدستور أو موضوع لجنة التمكين أو تشكيل المجلس السيادي أو تشكيل مجلس الوزراء أو تعيين القضاة والأجهزة العدلية… وغيرها من أفخاخ ومصائب دستور لجنة تسيير نقابة المحامين؟ لا شيء ذُكر في هذا الشأن في خطاب البرهان، ولم يتم الكشف عن النقاط التي احتج عليها الجيش حتى الآن ولا هي مآخذه على الدستور فيما لا يخص الجيش مما ذكرنا من مصائب وأفخاخ مشروع الدستور الانتقالي لعام 2022م؟ لا شيء موثوق به ومنشور حتى الآن.

التسوية السياسية التي تدور خلف الكواليس حتى الآن، يبدو أنها في مراحلها النهائية، وقد شهدت الساحة السياسية تحركات مكثفة للسفير الأمريكي بالخرطوم خلال الفترة الماضية منها ما هو معلن، ولعل الكثير منها ما ليس معلنا، وتتحرك قوى الحرية والتغيير أيضا للحاق بركب التسوية ويصيح منسوبيها في القنوات الفضائية بأن التسوية قادمة، ويعلن قادة الحرية والتغيير ألا تعديلات كثيرة على الفضيحة المسماة بمشروع الدستور الانتقالي لعام 2022م، وهاهنا مكمن الأزمة السياسية السودانية الآن. فإذا تم تمرير مشروع الدستور الانتقالي لعام 2022م فإن الساحة السياسية السودانية لن تشهد استقرارا ولن يتم فك الاحتقان السياسي الموجود الآن، وذلك لأن هذا الدستور الفضيحة مرفوض من غالبية الشعب السوداني إسلامييهم وسلفييهم ويسارييهم، والذي ارتضى به حتى الآن هم المجلس المركزي للحرية والتغيير وبعض الشعبي وبعض أنصار السنة، وهؤلاء يمثلون شريحة ضئيلة من الشعب السوداني، وحتى داخل المجلس المركزي فإن حزب الأمة القومي لن يجرؤ على مكاشفة عضويته وقاعدته بعلمانية مشروع الدستور الانتقالي لعام 2022م لأن قاعدة حزب الأمة القومي هي من جماهير الأنصار ذات الاعتزاز الكبير بدينها لدرجة القتال في سبيله ولن ترضى قطعا بأن يحكمها دستور علماني.

على الذين يريدون إجراء تسوية وفق مشروع الدستور الانتقالي لعام 2022م العلماني أن يراجعوا حساباتهم جيدا، لأن مثل هذا الدستور العلماني إذا تم الاستفتاء عليه بصورة نزيهة سيسقط سقوطا مدويا، إلا إذا أرادوا فرضه بالقوة وبالأمر الواقع، وهذه طريقة ليست موضوعية ولا عقلانية ولا سياسة راشدة، والشعب السوداني النبيل لا يمكن أن يتم التعامل معه في شأن الدستور بهذه الطريقة المرفوضة.

حسن عبد الحميد