منوعات

سرادقات العزاء في السودان منصات سياسية وكروية

يسودها التسامح والتعاضد وتجمع بين الخصوم وتعد مسرحاً لتباهي بعض النساء بمقتنياتهن من الذهب

للشعب السوداني عديد من العادات المستمدة من بيئات وثقافات مختلفة، تتنوع بحسب قبائله المنتشرة على امتداد أقاليمه الـ18، لكن هنالك قاسماً مشتركاً يجمع بينها هو التضامن والتآلف الاجتماعي، ويظهر ذلك بشكل لافت في الأتراح والأفراح، فالسودانيون يؤازرون بعضهم بعضاً في المناسبات الاجتماعية بخاصة عند المصائب مثل الموت، فينصب أمام منزل المتوفى سرادق عزاء (خيام) لفترات تتراوح بين اليوم الواحد وثلاثة أيام، وهو بمثابة عزاء رسمي يوجد فيه أهل أسرة الميت لتلقي العزاء، لكن تظل الأبواب مفتوحة لتأدية الواجب ما بعد ذلك، وهناك مثل سوداني يقول “البكاء لحولو بجيب زولو”، أي قد يأتي شخص بعد عام لتقديم واجب العزاء.

منصات سياسية

على رغم مسحة الحزن التي ترتسم على ملامح أهل المتوفى وفداحة الفقد، فلا تخلو سرادقات العزاء في السودان من تزاحم المفردات السياسية والكروية ما بين خطيب مفوه ومستمع يجيد الإصغاء، فقد عرفت هذه السرادقات منذ أمد بعيد بأنها بمثابة مؤتمرات استثنائية يخطب فيها أهل السياسة، وبطبع المزاج السوداني الذي يعشق السياسة ومنحنياتها وتقلباتها فإنه يحتفي بنجومها عندما يتوافدون إلى السرادقات، وسرعان ما تتحول بعد الترحم على المتوفى والدعاء له بالرحمة والمغفرة إلى منصات ومناظرات سياسية يجيد بعض الساسة تقديم رسائل عبرها، وأحياناً تتحول إلى مؤتمرات يوجه من خلالها المعزون أسئلة بخاصة إذا كان من يخاطبهم مسؤول حكومي أو نافذ في دولاب الدولة.

نقاشات كروية

يعرف عن السودانيين عشقهم كرة القدم ويتشيعون بين أكبر فريقين هما الهلال والمريخ، ولا تخلو جلسة سودانية من استعراض الوضع الكروي في البلاد والتشاكس المعهود بين مشجعي الناديين بخاصة إذا صادفت مناسبة العزاء مباراة مهمة بين الفريقين في الدوري المحلي، وتزداد شدة النقاش إذا كان بين الحاضرين أحد لاعبي الفريقين أو أعضاء مجلس إدارة أحد الناديين، ولا يجد أهل الفقيد حرجاً في المشاركة في الحوارات الكروية، وفي أحيان كثيرة ينقطع النقاش عند توافد المعزين لتقديم العزاء، لكن سرعان ما يتجدد النقاش الحامي حول ما يجري داخل هذين الفريقين اللذين يمثلان قمة الكرة السودانية.

تسامح وتعاضد

وبحسب الباحث الاجتماعي الطيب أبوسمرة فإن “تجمعات السودانيين بشكل عام لا تفصل بين العام والخاص في الشأن السياسي أو الرياضي”، موضحاً أن سرادقات العزاء تمثل المجتمع السوداني بكل ألوان طيفه، وتتضمن معاني التسامح والتعاضد المجتمعي بداية من أهل الحي الذي يقطن فيه المتوفى، حيث يقومون بتوفير حاجات العزاء من مأكولات ومشروبات، فيما تتجمع النساء لمساعدة ذوي الفقيد في إعداد وجبات الطعام والمشروبات للضيوف الذين يأتون لتقديم واجب العزاء لأهل المتوفى.

أضاف “من الأشياء الملحوظة والإيجابية في مناسبات العزاء التكاتف المنقطع النظير والهمة العالية من قبل الشباب فهم من يتولون حفر القبر وتجهيزه، فهذه المشاركات تعد واحدة من عبقرية تماسك النسيج الاجتماعي في السودان، كما تجمع هذه المناسبات الخصوم السياسيين في ما بينهم مهما اختلفت المذاهب، فقد استطاعت تلك السرادقات تقريب وجهات النظر بين عديد من الأشخاص الذين تجمعهم خلافات وخصومة في قضايا مختلفة سياسية كانت أم مالية أم اجتماعية”.

ولفت أبوسمرة إلى عدد من الأمثلة التي يتداولها السودانيون في هذا الجانب من التسامح، منها سماح الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري لغريمه السياسي السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني السابق محمد إبراهيم نقد بحضور عزاء والده، على رغم أنه كان مطارداً من الأجهزة الأمنية ومنحه نميري تعهداً ألا يتم تعقبه بعد العزاء وهذا ما حدث فعلاً، مشيراً أيضاً إلى كثير من التقاربات السياسية التي تمت في سرادق العزاء، وآخرها ما حدث من تقارب عقب وفاة الإمام الصادق المهدي بين مبارك الفاضل المهدي وقيادات حزب الأمة القومي على رغم الخصومة السياسية بينهما.

وعلق الكاتب والباحث المجتمعي هلال الساداتي على أحوال العزاء في السودان خصوصاً في مدينة أم درمان، بقوله “عندما كانت قلوب أهل الحي محملة بالخير والصفاء كان المصاب والفرح يصيب الجميع وإن كانت هناك بعض العادات غير السليمة التي اندثرت بالوعي وانتشار التعليم، فنساء أهل الميت قديماً كن يضعن في إناء كبير كمية من التراب والرماد ويقمن بتفريغه على رؤوسهن وسط صراخهن، تعبيراً عن الحزن الشديد على المتوفى أياً كان رجلاً أو امرأة، في حين تقفز بعضهن إلى أعلى ويعددن مآثر الميت، ومن العادات القبيحة لدى النساء في الماضي عدم الاستحمام وتغيير الملابس لمدة أسبوع ويتبع ذلك لبس ثوب أبيض يطلق عليه (القنجة) والمشي خلال أيام العزاء حفاة، وقد يستمر الحداد لمدة عام”.

وأشار الساداتي إلى “تغير الحال في الوقت الحاضر، فأصبح العزاء الآن النقيض تماماً لما كان يحدث سابقاً، إذ باتت المرأة تذهب إلى العزاء وهي في أجمل صورة بحسب الوضع الاجتماعي للعزاء، فبعضهن يغالين فتأتي إحداهن بكامل أناقتها مرتدية آخر صيحة في الثياب ومتحلية بالذهب والحناء، وكأنها ذاهبة إلى مناسبة فرح”.

وأضاف “في بداية العزاء تجد الجميع يخيم عليهم الحزن والأسى والصمت، ويقبل المعزون رافعين أكفهم وقائلين (الفاتحة)، وبعضهم يسأل عن سبب وفاة المتوفى ومتى حدثت الوفاة والجميع جالسون على الكراسي، بينما تجد أهل الميت يتفقدون المعزين ويجلسون بجانبهم ويقدمون واجب الضيافة لهم، وغالباً ما تكون مشروبات ساخنة مثل الشاي والقهوة، وتكون الوجبات الثلاث (الفطور، والغداء، والعشاء) حاضرة فترة العزاء التي تتراوح بين يوم وثلاثة أيام”.

إدارات أهلية

وبشكل عام تختلف الأحوال ما بين سرادق عزاء وآخر في مناطق السودان المختلفة بخاصة إذا كان الفقيد أحد رجالات الإدارة الأهلية أو من كبار رجال القبيلة، حينها تستمر سرادقات العزاء لفترات طويلة وربما تستغرق شهوراً في تلقي العزاء ومن ثم تنصيب خليفة للفقيد بمشاركة أهل القبيلة أو المنطقة، ومن المألوف مشاهدة السيارات الكبيرة محملة بالمعزين الذين يتوجهون صوب سرادق العزاء، وفي المقابل تنحر وتذبح أعداد هائلة من الإبل والماشية لإكرام وفود المعزين.

ووفقاً للباحث الاجتماعي الطيب الأمين، فإنه من المعروف أن المجتمعات القبلية في السودان تتمتع بترابط وثيق وتكافلي يتيح مشاركة الجميع في تقديم الدعم المادي والعيني لإكرام المعزين، إذ إنه من شيم وطبائع السودانيين الحميدة يقوم جيران المتوفى بفتح دورهم لإيواء المعزين الذين يأتون من أماكن بعيدة خارج المدينة أو القرية، ويتولى أهل البيت تقديم الطعام والشراب لهم طيلة أيام العزاء.

إشراقة على عبدالله

إندبندنت عربية