تحقيقات وتقارير

ما وراء الثورة السودانية

أكثر ما نخشاه أن تعجز القوى الثورية عن الارتفاع لاستحقاق ما تفرضه التحديات السياسية المهددة للبلاد


وحده الرهان على أفق الصيرورة، هو ما يلهمنا الصبر على فك ارتباط كثير من الظواهر المتشابكة ببعضها البعض والسياقات المعقدة إلى درجة ملتبسة، حيال قراءتنا لتحولات الثورة السودانية منذ انطلاقها في 19 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2018 وحتى اليوم.

فالقدرة على إسقاط فكرة الصيرورة على المسار المتعرج للثورة السودانية، مستصحبين مقارنة لمصائر ثورات كلاسيكية في التاريخ، ربما ستسمح لنا برصد مؤشرات هادية انطلاقاً من تحليل ظواهر ثورتنا في السودان، على رغم أن الإسقاط المذكور لا يمكنه أن يعكس تطابقاً يحيل إلى نتائج متماثلة، نظراً إلى خصوصيات بينية تكمن في سياق مقارنات تتصل بالتغيير والتاريخ والجغرافيا والتكوين والهوية والمجتمع، الأمر الذي سيتعين علينا معه الوصول إلى نتائج وخلاصات تحليلية لثورتنا قد تفسر لنا موضوعياً طبيعة تلك الخصوصيات وما يلابسها، وعلى نحو يفيدنا في فك شيفرة الاستعصاء الذي يبدو عليه واقع الثورة السودانية اليوم.

لقد حدث تغيير كبير في السودان بالمعنى الثوري، الذي يعني رغبةً ظاهرة وإرادة جمعية في إنهاء نظام نخبة سلطوية فاسدة سممت الحياة والمجال العام للسودانيين إلى درجة أصبح فيها الحل الوحيد للخروج منها، الثورة عليها نتيجة لعجز وانسداد طاول حتى عاديات الحياة. وما كشفت عنه تظاهرات الشعب منذ 19 ديسمبر 2018 وصولاً إلى إسقاط حكومة الجنرال البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019 كان أكثر من واضح في إرادة التغيير.

هذا يعني أن ثورةً اقتلعت نظاماً ديكتاتورياً ظل جاثماً لثلاثين سنة، لا يمكن فيما هي تكابد صيرورة المخاض أن تقبل بعودة ما قوضته من ذلك النظام، الأمر الذي سيؤكد لنا في خضم هذه الصيرورة ذاتها، أن أية محاولة لاستعادة أحوال ما قبل يوم 19 ديسمبر من العام 2018 قد تعني أي شيء في مستقبل الاهتزاز الذي ستعانيه صيرورة الثورة من دون أن يعني ذلك، بأي حال من الأحوال، عودةً لما قبل ذلك التاريخ المذكور آنفاً.

ولعل انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على المرحلة الانتقالية السابقة يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، وعجزه حتى اليوم –بعد أكثر من عام على انقلابه- عن تعيين رئيس للوزراء، وتكوين حكومة يرضى عنها الشعب، ورغبته في الانسحاب من الإدارة السياسية للبلاد وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية لاستئناف ما انقطع من المرحلة الانتقالية، ما يفسر ما ذهبنا إليه.

تخوض الثورة السودانية اليوم مسارها في التغيير البطيء وسط عقبات داخلية وخارجية كثيرة، لكننا إذا ما فرغنا من تأكيد رغبة الشعب الحقيقية في التغيير وعزمه على ذلك، سنجد أن عقبات كثيرة تواجه نجاح الثورة السودانية في الوصول إلى صيرورة واضحة للحكم الرشيد، بعضها هو جزء من التصميم المنحرف لتصور جيل الاستقلال لفكرة ومقاس الدولة السودانية، وبعضها يقع في إشكالية احتكار مخصوص بالطبيعة المكونة لهوية النخبة السودانية الأولى (وهي نخبة كانت بداياتها في الغالب الأعم مقتصرة على مكون مناطقي واحد) وبعضها يكمن في نظم إدراك تتصل بوعي المجتمع السوداني لذاته من خلال منظومة وعي قبائلية وطائفية، فيما يكمن بعضها في تعثرات هوية وطنية كانت قيد التشكل غير المنتظم، وبعضها يكمن في اختلالات معيبة لمعايير التنمية.

وهكذا، بالانقلاب العسكري للإخوان على الحكومة السودانية المنتخبة برئاسة الصادق المهدي، في عام 1989 كان هذا المزيج الهش للهوية السودانية لا ينهض لأن يكون معياراً تكوينياً مؤسساً لخطاب وطني سياسي، له القدرة على الصمود أمام الطوفان التخريبي لتطبيقات أيديولوجيا الإسلاميين التي دامت ثلاثين سنة، وما خلفته تلك الأيديولوجيا من فساد في نظم الإدراك والتعليم والهوية الوطنية للسودانيين، وتخريب جهاز الدولة العام وما أسست له من بدائل لذهنية عامة مفخخة بمقولات مضللة عن مفاهيم الإسلام، وما جلبته من بعث جديد ومدمر لنظام تسييس القبائل الذي سمم المجال العام، كل تلك الشرور التخريبية كانت كافيةً لأن تجعل من مهمة إعادة بناء الهوية الوطنية والدولة السودانية –بعد الثورة- أمراً أشبه اليوم بالمهمة المقدسة والقاسية في الوقت ذاته، حيال تحديات ومتغيرات كبرى أصبح عليها حال العالم اليوم مختلفاً اختلافاً كبيراً عما كانت عليه حاله في عام 1989، من ثورة المعلوماتية والاتصال، ومن عولمة، ومن اتجاهات عالمية تبشر بما بعد الدولة القومية وما بعد المواطنة.

في ظل هذا الخراب العام كان لا بد أن تكون تلك العقبات التي أسلفنا ذكرها، عقبات مضاعفة عما كانت عليه حالها قبل عام 1989.

ويتجلى لنا ذلك اليوم في العجز الذي تبديه قوى الثورة السودانية حيال ما يتعين عليها القيام به من استحقاقات ضرورية للسياسة في ظل مرحلة حساسة من التحول الثوري. فالاستعصاء الذي يعبر عن شلل إرادي لقوى الثورة حيال واجبات ضرورية كالوحدة وبرامج الحد الأدنى للسقف الوطني المشترك بين الأحزاب وتنظيم التحالفات، بعد تجربة متعثرة لسنتين من حكم مرحلة انتقالية مارستها قوى الحرية والتغيير عبر شراكة فاسدة، كل ذلك سيضعنا أمام ما يمكن أن نطلق عليه تعبير: “ما وراء الثورة السودانية” حيث إن أكثر ما نخشاه –على رغم إيماننا بصيرورة الثورة– أن تعجز قوى الثورة، باستمرار، على الارتفاع لاستحقاق ما تفرضه التحديات السياسية الحرجة للثورة والمنعكسة تهديداً وجودياً حيال مستقبل صيغة السودان ذاته.

فوفق ذلك الإصرار العظيم من الشعب السوداني وإرادته في التغيير والقطع مع مرحلة ما قبل عام 2018 وإصراراه على استحالة عودة الإخوان والعسكر إلى السلطة، ستكون العواقب في ظل الشلل الإرادي لقوى الثورة عواقب كارثية تصل إلى احتمال دخول السودان في ظلمات فوضى لا نهائية.

أليس خطيراً بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر أن يكون العقل السياسي السوداني عاجزاً عن رؤية السقف الوطني الضروري لتوحيد أحزابه على برنامج حد أدنى لإنقاذ البلاد من حافة الفوضى والحرب الأهلية الشاملة؟

أليس خطيراً أن تظل ذهنية أحزاب الخرطوم المركزية على رؤيتها ونظم إدراكها السياسي للسودان، كما كانت عليها حالها منذ الاستقلال، أي في نظرتها المنفصلة عن واقع ما جرى من حروب وتهميش في أقاليم بلد كانت مساحته مليون ميل مربع؟

ثم أليس خطيراً أن تكون التمانعات المانعة لقوى الثورة والقوى السياسية السودانية والعسكرية جميعاً من القيام بواجبات وطنية ضرورية مشتركة وممكنة التحقق (فضلاً عن كونها مدركة بالعقل والرؤية الموضوعية) إنما هي فقط تمانعات ناتجة من شلل إرادي في عقول تلك القوى السياسية والعسكرية بسبب التخلف الذي يمنعها عن رؤية الحقائق الوطنية والسياسية؟

في ظل هذه الحقائق السياسية المؤسفة لواقع حال قوى الثورة والقوى السياسية والعسكرية السودانية، هل يمكننا أن نسلم بأن الصيرورة الثورية بوصفها تحولات تطور إيجابي لمآل الثورة، هي تعبير مناسب يمكن إطلاقه عن تلك التمانعات، الآتية من ظرف تاريخي آخر هو ظرف التخلف، ولو حتى بقدر ضئيل من حسن الظن؟

وهل يمكن القول إن طرح أسئلة مشككة حيال تحقق هوية متماسكة للاجتماع السياسي للسودانيين (خصوصاً بعد تجريف نظام الإخوان المسلمين للهوية الوطنية 30 عاماً) هي بالفعل الأسئلة المناسبة التي ينبغي أن تسبق سؤال الثورة ذاته؟

وأخيراً، إذا عرفنا، مثلاً، أن الظرف التاريخي للتحولات البنيوية العميقة لعالم اليوم في ظل ثورة المعلوماتية والاتصال وسياق العولمة -وهي تحولات غير مسبوقة- هل يمكننا القول إنه: حتى سياق إسقاط الصيرورة في مقارنة الثورة السودانية -الآن وهنا– بسياق الثورات التاريخية الكلاسيكية، ولا سيما ثورات القرن العشرين، هو سياق إسقاط حقيقي صالح للمقارنة والقياس؟

نطرح تلك الأسئلة المتصلة بما وراء الثورة السودانية، ليس من أجل التشكيك في ثورة عظيمة أحدثت تغييراً واضحاً واقتلعت نظاماً ديكتاتورياً عتيداً، وإنما في سياق تساؤلات مشروعة ونابعة من التأمل في واقع سياسي سوداني تحكمه تمانعات بين قوى حزبية عجزت حتى الآن عن فعل ما يجب فعله مما هو ممكن وواجب التحقيق من الحد الأدنى الذي يمكن أن ينقذ السودان من حافة حروب أهلية وفوضى شاملة.

إن الأسئلة المستحقة -وإن بدت متشائمة- في سياق واقع ومستقبل ثورة سودانية عظيمة لهي في تقديرنا الأولى بالطرح من تلك الإجابات البسيطة والمطمئنة للسياسيين السودانيين في واقع سياسي ليس آمناً ولا مطمئناً.

محمد جميل احمد
إندبندنت عربية