فيسبوك

(الإصطباحية)


بخطوات متثاقلة يمشي بمقدار نصف خطوة فقط لأن هذا ما يسمح به ذلك القيد الحديدي الثقيل الذي يطوق قدميه مع سلسلة حديدية طويلة متصلة مع قيد مشابه يكبل يديه .. يحتضنه الشرطي ممسكا” بيده اليمنى كما تمسك الحبيبة بعشيقها .
رغم قصر المسافة من زنزانته إلي غرفة قياس الوزن و الطول لمحكومي الإعدام إلا أن هذا الممر القصير كان أطول ممر في حياته فقد أسترجع بذاكرته حياته كلها منذ أن كان طفلا” يحطم زجاج السيارات المتوقفة امام منازل الافراح مرورا” بشبابه الذي قضاه في شرب ( البنقو) و إحتيال صغار التجار و إصطياد الحسناوات و إستدراجهن و قطف ثمارهن .. لم يجد لنفسه طيلة حياته فعلا” جميلا” .. تذكر كيف أنه كان يحرم والدته ماله و يصرفه ببذخ علي شلته و فتياته .
( اقعد هنا لحدي ما يطلع زميلك )
مخاطبه الشرطي بهذه الكلمات التي قطعت عليه حبل ذكرياته بعد ان امره بالجلوس لإنتظار خروج احد المحكومين بالإعدام من غرفة القياس و الوزن .. هذه الغرفة التي يتم فيها وزن حجم المحكوم و طوله لتتوافق مع طول حبل الإعدام بعملية حسابية معقدة .
جلس علي أقرب مقعد و عاد بزهنه للشرود في قضيته التي استمرت لأعوام حتي صدر بحقه حكم بالإعدام منذ عام و نصف بسبب قتله لصديقه و جاره و رفيق دربه بطعنة في الصدر أنهت حياته في الحال .
هو الآن يستعد للحاق بصحبه و كلمات شيخ السجن طمأنته بان الله سيغفر ذنبه حين يتم تطبيق القصاص .. يحاول جاهدا” أن يسيطر علي الخوف و هذه الرجفة التي لازمته منذ فجر اليوم .. يتمتم بآيات قرأنية كي تذهب خوفه و إرتعاشه .
يخرج زميله يجرجر ساقيه من الغرفة و سرواله مبللا” .. يبدو بأنه فقد السيطرة علي أعصابه فالخوف الشديد مدرر للبول .. يدخل هو و يقف علي الميزان .. يشاهد الشرطي وهو يقوم بتجهيز حبله أمامه و يشده علي منضدة مجاورة .. تتم عملية القياس و الوزن ليقتاده الشرطي للخارج فيجلس بجوار زميله .. يتقدم نحوهم مدير السجن و يصافحهم قائلا” :
(يا جماعة العفو لله ورسوله لو شفتو مننا تقصير و تأكدو انكم ماشين لربكم نضاف ما تيأسو من رحمة ربنا .. احنا ح ننفذ الحكم بعد صلاة الظهر و من هنا لحدي التنفيذ طلباتكم مجابة اي حاجة عاوزنها او نفسكم فيها ورونا نجيبها ليكم .. هسه ح نسمح لي كل زول فيكم يقابل عشرين نفر من اهلو القاعدين بره ديل لمدة نص ساعة و السلام عليكم )
# انهمرت دموعه بغزارة و طلب من مدير السجن بان لا يدخل له اي أحد من أهله .. أنصرف مدير السجن و دخل أهل زميله بينما هو جلس وحيدا” يتذكر ذلك اليوم الخريفي الجميل الذي دعاه فيه صديقه لشرب سيجارة بنقو معه بمنزله القريب من منزلهم.
تناول لفافة بنقو في الصباح الباكر جدا هي اهم شئ لمدمني المخدرات و يطلقون عليها اسم ( الإصطباحية )
حيث يتوهمون بأن شربها صباحا سيجعلهم من اسعد المخلوقات طيلة اليوم رغم انها تفقدهم شهية الأكل و تشتت تركيزهم و تزغلل ابصارهم و تصيبهم بالخمول و الكسل و الإنطواء و العزلة و الخطير في الأمر بأن ( البنقو) او نبات القنب لا يصنف في قائمة المخدرات بل في قائمة المهلوسات التي تصيب الدماغ مباشرة و تقتل الخلايا و تصور للمتعاطي صورا” غير حقيقة فتكبر الأشياء الصغيرة و التافهة و تصغر و تبسط الكبيرة الضخمة .. تعطيه ابعادا” و مقاسات غير حقيقية ك تلك التي نجدها علي مرآة السيارة الجانبية تماما” .. صانعي هذه المرآة يكتبون هذا التحذير عليها ( مقاسات و بعد الصورة غير حقيقية ) حتي يحذر السائق لما يراه خلالها .. أما صانعي هذا النبات المهلوس لا يكتبون تحذيرا” بل يقولون للمتعاطي ( امسك أوزن راسك ) .
# دلف حسين لمنزل صديقه بعد ان فتحت له زوجته الباب بملابس النوم حافية القدمين في ارض المنزل التي أمتلأت بمياه أمطار الصباح و أخبرته بأن صديقه عند راكوبة المنزل .
خاض حسين في مياه ( حوش) المنزل حتي وصل صديقه ملقيا” عليه التحية :
> صباح الخير يا عمك والله دي مطرة عجيبة
> صباح النور يا سحس ..اي والله انا ما صدقت وقفت قلت اضرب ليك تجي تصطبح .. عارفك ح تكون خرمان و ما عندك حاجة .
> ياخ ما بتقصر عارفك .. امبارح بالليل غشيت ابو الريال لقيتا فاضية ما فيها اي شي قالو الحكومة جات نشفت الحتة
> كان تمشي كرور لي عمك جاكسون قالو عندو حاجة نضيفة .
> مشيت ليهو ياخ التقول عارف ح تصب مطرة الصباح لقيت اولادو قالو لي جاكسون عندو ( الشديد) البلخم داك لكن هسه صبنو عشان الحكومة لافة إلا تجي بكرة قمت رجعت قلت اشوفك لكن لقيت نور الحوش طافي قلت صحبي ده بكون نام مع اولادو ما ازعجو .
> كدي هسه ديل سجارتين نشرب واحدة و بعد نصلي الجمعة نمشي نشوف جاكسون نجيب حاجة منو .
# تم اعداد اللفافة و شربها بمزاج عالي فألتفت فتحي لصديقه قائلا” :
> محتاجة ندبل ليها تاني ياخ
> هسه كنت عايز اقول ليك كده بس قلت ح تقول لي انت راسك قوي ساي .
> ندبل يا زول .. بس هسه المشكلة لقيت ليك الدفتر اتملا موية مطرة عشان كنت داسيهو في الراكوبة دي .. امشي جيب دفتر من الطبلية الفي الزلط بره و خمسة سجارات عشان السجاير العندي ده ناشف .
> يا زول امشي انت انا زولك ده ما بديني عشان داير مني قروش .
> خلاص امسك كسر السجارة لحدي ما اجيب الحاجات دي .
# خرج فتحي صديق حسين من منزله و بداء حسين في تكسير قطعة البنقو استعدادا لرشها علي ورق البرنسيس الذي ذهب فتحي لإحضاره .. وفي اثناء تكسيره و تنظيف القطعة سمع حسين زوجة فتحي تصرخ فهب واقفا” ليتأكد بعد أن تكررت الصرخة هرول لها فوجدها في الزقاق الخلفي للغرفة .
> مالك يا زولة في شنو
> في حاجة قرصتني في صباعي انا وبشيل في الطوب ده و ح تكون عقرب .
> كدي وريني يدك .. قرصة العقرب معروفة
# مدت له يدها و هي تتألم فمسكها ليتأكد .. في ذات اللحظة سمع صوت صديقه فتحي الذي عاد ليأخذ محفظته التي نساها و خرج .. قائلا” له :
> دي آخرة العشرة يا حسين ؟ كملت نسوان الحلة و قبلت علي مرتي ؟
> ده كلام شنو يا فتحي انت اخوي و مرتك دي قرصتا عقرب و جيت اشوفا بعد صرخت .
> عقرب يا عقارب انتو الاتنين عفن
# كانت هذه اخر كلمة قالها فتحي الذي جذب زوجته من شعرها و بداء يضربها بكل قوته حتي فقدت وعيها بعد ذلك لحق بصديقه حسين الذي هم بالمغادرة من المنزل و انهالت الضربات العنيفة مع بعضهم داخل الراكوبة ليرفع حسين تلك السكين التي قطع بها فتحي السيجارة ليغرزها في صدره بقوة منهيا” القتال و حياة صديقه .
# صراخ احد اطفال زميله المحكوم بالاعدام قطع علي حسين حبل الذكريات و ذكره بحبل الاعدام و هو يري اسرة زميله تبكي و اطفاله يصرخون و ابنته تمسك بقدمه و الشرطي يجزبها و يخرج اسرته لأنتهاء الوقت .
يأتي شرطي آخر و يقودهم لزنزانة تجاور المشنقة يسمونها ( خمسة دقايق ) نسبة لقلة الوقت الذي يقضيه محكوم الاعدام داخلها .
يحضر لهم الشرطي ( ابريقا”) و سجادة لصلاة الظهر التي حان موعدها .. يتوضأء حسين و يطلب زميله الاستحام فينتظره حسين حتي اذا عاد اقاموا صلاتهم و صلو ركعتين بسورة الكهف كاملة .. فقد قضي حسين شهور سجنه يحفظ فيها القرأن و كاد ان يحفظه كله .
الشرطي يفتح باب الزنزانة و يخرج زميله لساحة الإعدام .. تمر الدقائق علي حسين داخل الزنزانة لوحده بطيئة جدا” حتي سمع صوت وقوع ابواب المشنقة العنيف و الذي يحدث صوتا” ترتج له ابواب السجن و يتردد صداه في جدران *السرايات* و تطير الطيور صارخة من داخل اشجار السجن ويصل صوته لسكان الاحياء القريبة فيعرفون بأن بالسجن روح فارقت بقصاص لبارئها .
لم يمضي وقت كثير حتي تم اخراج حسين من الزنزانة و توجه به الشرطي الي ( حوش) المشنقة .
انفاسه صارت متقطعة و أقدامه ما عادت تحمل جسده ونظراته ذائقة يشاهد الناس حوله ألوان فقط لا يفرذ الشرطي من المواطن .. يبدو جسده اثقل علي اقدامه فينحني ليسقط ولكن يلحقه شرطي آخر ليسنده ..
يسمع صوت القاضي الذي حكمه بالاعدام يتحدث عن العفو مع اهل القتيل تحت صيحاتهم القصاص القصاص .. يحملونه علي عتبات المقصلة القصيرة حملا” .. يتشهد .. مدير السجن يأمر بالتنفيذ بصوت عالي .. تسرع اقدام شرطي فيضرب الأرض رافعا” تمام جاهزية المقصلة و المحكوم .. يأمر القاضي بالتنفيذ .. يرفع مدير السجن تحية القاضي و يأمر شرطي المقصلة الذي يمد يده لسحب ترباس المشنقة .. يغيب حسين عن وعيه .. تصرخ ام فتحي بأعلي صوتها (العفو العفو العفو لله و رسوله .. عفيتك يا حسين )
الآن حسين داعية يجوب القرى و الحلال ينشر الدعوة للناس و يحذرهم من غضب الوالدين و المخدرات .
نزار العقيلي
نزار العقيلي