محمد محمد خير

محمد محمد خير يكتب: ليلة في لندن


للمدن مذاقها المرتبط بنكهتها وتكويناتها وشوارعها وشجرها وأنهارها وتاريخها وربما لا يختلف البعض بأن النساء يدخلن أيضاً كبهار يلّون المذاق. فالنساء مثل الأزاهير يضعن رائحة المدن. شدت بصري صبية في (المترو) الذي يتجول بين مطار هيثرو ومحطة (بادنقتون) الشهيرة.
الصبية تجسد لحاضر مستقبله الدعة والملاحة والخفر لها أعين زرقاء مثل (ضّراب البلي) الذي كنا نحرص عليه في صغرنا الشقي. كان يختلف عن (البلية) العادية لأنه كان أكبر حجماً، وأوضح ملامحاً وكان ذا لمعان خاص .. سبحان ربك حتى (البلي) لا يسلم من اتهام التمييز على أساس الجنس إذا ما انطلقنا أن (الضّراب) هو (ذكر البلي) !
كانت الصبية تتنفس هسهسة فيضج كل المترو بالرنين وعندما تمسك أنفاسها يصدر المترو أصواتاً أشبه بالاحتجاج وعندما تتنفس ثانية يتئد! وطن المترو بكل جلاله الحديدي وصولجانه وقوته واتساع عرباته الملحقة به وركابه نفسه على هسيس الأنفاس الصادرة من رئة الصبية عبر أنفها المرسوم رسماً فى الجزء المجاور لفمها الأشبه بقوس قزح . تتنفس يرن. تكف يضج. وأنا الراكب الوحيد المعني بهذا الحوار بكل تجلياته البافلوفية.
سرحت في المترو وفي بريطانيا الاستعمارية زارعة كل الفتن فى العالم وامتلأت احتقاراً لكل أجيال ساستها بيد أني كنت مرتاحاً (للفتنة) التي تتنفس بكل هذا النثيث!
هى فتنة يمكن اتقاءها (بغض البصر) ولكن كيف نغضه عن فتن بريطانيا التى ظللنا ندفع ثمنها منذ خرجوا ومنذ غنى العطبراوي (يا غريب يلا لبلدك) ذهبوا لبلادهم وأنجبوا مثل هذه النار التى تحرق بلا لهب. ونحن لا ننجب غير الخلافات!
كل مؤامرات السياسة تحاك من هذا البلد الذى لا تغرب شموس خبثه ولا تدفأ برودة أعصابه. نهبوا كل ثروات القارات واستضعفوا كل شعوبها لبناء مثل هذه الصروح التى يقطعها المترو بسرعة تجعلها ظلالاً وسراباً فى لمحة البصر وكلما خف وضاعف السرعة تنفست الصبية فعاد الرنين وامتلأت (القمرة) بفوح الأريج وتخالط قلبى بين كراهية الاستعمار ومحبة ذرية الاستعمار.
هى لا ذنب لها لأنها ولدت هكذا كما يقول المسيرية (إييدا فوق الدلال وعينا فايته الريش) . نسيت قسوة أجدادها ولصوصيتهم لأن مؤسسات بريطانيا عقب الاستعمار أجهزت على ذاكرة الشعب بفلترة التاريخ فلم تعد تستدعيه. وأسست للأجيال الجديدة كل أسباب الانطلاقات الكبرى فى الحريات العامة والتجويد المعرفى والتخصصات الدقيقة والصحة بيئةً وأبداناً والبحث العلمي. الأهم من كل ذلك علمتهم “الرماية بالأنفاس ” فحذقت الصبية لعبة أن تتنفس فيضج المترو ويلتهب (العالم الثالث)!
منحت العينين فرصة السياحة فى هذا النصب الجمالي لتذكارات الاستعمار وأحفاده. كانت الحفيدة مثل الحديقة كل نبت فيها يفيء بفاصلة مختلفة وبجمل مفيدة لها وغامضة للسائح. ألقت رأسها للخلف فلامس عنقها المقعد الذى يليها ملامسة الندى المعروق بالطل للزهرة ذات الفصوص اليوانع، ثم نهضت نهضة خفيفة لم يسمعها جسدها فمثل هؤلاء الصبايا ينهضن بلا صوت لأن عنقها لا يحتاج لتأشيرة لدخول جسدها، كما أن جسدها لا يحتاج (لدقة باب) من قلبها. كل أعضاء الجسد مفتوحة على بعضها بتناغم ونسق وفقًا لدستور يقوم على التعددية والحرية فى إطار مواطنة الجسد. تقوست الصبية مثل منطاد بيد صائد ماهر أظنها كانت (تتمقى) لترتاح الفايتمينات وعصير الفواكه وليتخذ الدم النادر الفصيلة مواقعه فى شرايينها فى دورة انعقاداته العادية وفى تلك اللحظة تحرك صدرها وانسرب خصرها فشهدت عياناً تحاكك ما نفرا فى الصدر الأعظم. يسقط الاستعمار وعاشت ذريته.

صحيفة الانتباهة