رأي ومقالات

عثمان جلال: التطبيع مع اسرائيل وذهنية القابلية للاستعمار

(1) القابلية للاستعمار مفهوم طرحه المفكر مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة، وجوهره أن المستعمر يعمل على خلق نموذج من الاقتصاد والفكر والثقافة، وبعد أن تتم له السيطرة المعنوية والمادية يغدو المجتمع خاضعا ذاتيا للحدود الثقافية والاقتصادية التي رسمها له المستعمر ويتفاعل داخل صندوقها بل ويدافع عن هذه الحدود ، وبالتالي هي حالة رضوخ داخلي عميق للاستعمار، وناتجة عن إقناع الاستعمار للمستعمرين بتفوقه الحضاري عليهم وعدم قدرتهم على إدارة قضاياهم وازماتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية بدونه ودونيتهم في كل شي.
(2)
إن القابلية للاستعمار حالة ذهنية وسلوكية ترسخت في المجتمعات العربية والإسلامية حتى غدت عاجزة عن التأثير الحضاري، ومقاومة إسرائيل ، وكلما اعترت الشعوب العربية ثورة ضد ثقافة الاستبداد اسكتتها بطشة حجاجية. ولن تتحرر المجتمعات العربية والإسلامية من حالة القابلية للاستعمار الا باستعادة قوامتها في صناعة الحكم والاقتصاد والثقافة وتخلصت من براثن نموذج دولة ما بعد الاستقلال الاستبدادية
(3)
لقد قادت المجتمعات العربية والإسلامية في القرن الماضي الثورة الكبرى ضد الاستعمار، وقبل ان تكمل هذه الشعوب الموجة الثانية من الثورة الثقافية والمتمثلة انجاز مهام البناء الوطني وترسيخ النظام الديمقراطي المستدام ، وتلازم بناء الدولة والأمة نشطت الحركة الصهيونية العالمية لإيقاف هذه الثورة الثقافية بتغذية الأيديولوجيات القومية والماركسية، داخل الدولة القطرية العربية لأن الحركة الصهيونية تدرك أن زرع الدولة الإسرائيلية في فلسطين وتفوقها الشامل لن يتأتى الا في ظل دول عربية استبدادية متفاقمة النمو هوياتيا،ونخبها الحاكمة متعازلة وقاهرة لمجتمعاتها
(4)
تجلت ثمرات هذه الدولة على مستوى الصراع العربي الاسرائيلي في الهزائم المتتالية في حروب 1948، 1967، 1973، واختزال الصراع من صراع حضاري (عربي إسلامي، اسرائيلي) ، إلى صراع (فلسطيني، إسرائيلي)، ويجب انهاءه وفق الرؤيا الإسرائيلية وأيضا ثمرة هذه الدولة الاستبدادية تحول الكيان الصهيوني إلى صديق حميم، وإيران الإسلامية إلى عدو لدود، وثمرتها المرة علي المستوى الداخلي، وكما إرادة إسرائيل انهيار العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان وتحييد مصر والاردن، والتهافت نحو الكيان الصهيوني لانتشالنا من أثقال هزيمتنا الحضارية المركبة،
(٥)
هذا العقل المتهافت والمأزوم لا يدرك أن التطبيع مع إسرائيل يعني التطبيع مع استمرار حالة الهزيمة الحضارية، والتطبيع مع ذهنية القابلية للاستعمار والتبعية والتطبيع مع استمرار أنظمة الاستبداد الحاكمة، ووأد اي ومضات لاستعادة الشعوب قوامتها في الحكم وصناعة مشروعات النهضة الشاملة
ان الثمرة المرة لتراكم الاستبداد في المنطقة العربية تدجين وتكلس قطاعات من المجتمعات العربية وتوهمها أن التطبيع مع إسرائيل هو مفتاح لحل أزمتنا الحضارية، والثمرة المرة تحدي الانظمة الاستبدادية الحاكمة لإرادة الشعوب العربية بالتطبيع مع الدولة الصهيونية
(٦)
ان تهافت المكون العسكري بقيادة الفريق البرهان للتطبيع مع إسرائيل لا يصب في مشروع الثورة السودانية وقضايا البناء الوطني الديمقراطي المستدام ، بل يصب في أجندته الشخصية فهو طامح في الحكم علي الشيوع، وان ابرام اي اتفاقيات ثنائية مع المكون العسكري لإطالة استمراره فاعلا في المشهد السياسي تعني التفاف علي الثورة السودانية، ووأدها في المدى الاستراتيجي
ان الخيار الاستراتيجي لإنقاذ الثورة السودانية وضمان التحول الديمقراطي اما توافق كل القوى السياسية المدنية على إدارة المرحلة الانتقالية، وأما توافقها على إنهاء حالة التيه والغموض الخبيث والخطير الماثل وإجراء انتخابات مبكرة

عثمان جلال