محمد محمد خير

محمد محمد خير يكتب: حليل الماضي


كتب الدكتور عبد السلام نور الدين ذات مرة مقالاً بمجلة الثقافة السودانية في الثمانينيات يعالج عبره فلسفياً الرجعة المرضية للماضي واتخذ من شيخ الطيب السراج نموذجاً لإنسان يعيش الحاضر بالماضي من خلال ركوبه الخيل في سوق (أب روف) ومن حرصه على الحديث باللغة العربية الفصحى للعامة ثم امتد دكتور عبد السلام بالمقال واتخذ حقبة الستينيات التي تميزت بالوثبة العامة أنموذجاً يرتكز عليه مثقفو تلك الحقبة الذين ما زالوا على قيد الحياة فقال إن الستينيات تعد بؤرة نقية تحج لها الذاكرة ما دفعني للاستشهاد بما كتبه الفيلسوف عبد السلام نور الدين سؤال طرحه عليّ شاب صحافي لصالح لقاء صحفي وفحوى السؤال لماذا استدعي الماضي في كتاباتي وكان بإمكاني الاقتضاب بالإشارة إلى أن الماضي جميل لكنني أسهبت بما يدلل على انتمائي كلياً للماضي نهار تتصف شمسه كخير الشموس وترسل لهباً دافئاً والموظفون يتجهون لـ(بوفيه المدينة) كان يتوسط الخرطوم ويواجه سودانير التي صارت الآن طلالا لا تلهم شعراء الجاهلية فمبناها الآن يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد البوفيه يشبه بوفيهات لندن في الصيف و(بلازات) روما في ذات الفصل والكركدي له زبد ولونان أحمر فاقع وأبيض ينتسب للنبيذ والأفندية يدخنون البنسون ويتحدثون بكلمات انجليزية رصينة ويحكون عن إجازاتهم بالقاهرة وتجوالهم في الهايد بارك وكانوا منتجين ولهم ذمة وتأفف من الزلل.
(هوي يا ليلى) هكذا كانت العاصمة المثلثة تتصادح بعد صلاة العشاء بعد صلاة العشاء وبعد كامل الشكر والتسليم ينعم الله مباهج على امتداد ما تسعفك به العين من رؤية وبقدر ما يتيح لك الفؤاد من الغناء وكان لحقيبة الفن مذاق غير الذي نسمعه الآن حين يقدمها المبارك إبراهيم بعد شعارها الملهم:
جلسن شوف يا حلاتن
الناعسات كاحلات
فزر في ناصلاتن
قالوا لى جن هوى
الحبايب يا الله
كان مريخ الأمس أقوى من مريخ اليوم وهلال منزول أكثر عناقاً للشباك من الهلال الآن وكان السيد عبد الرحمن سيد الأئمة والحسيب النسيب نصير المثقفين وعلى مدى فترة الاستعمار لم يسجن أكثر من مائتي معتقل منذ عام 1899م حتى رفع العلم في 56م والمناخ نفسه لم يكن بمثل هذه الحرارة وهذا الانبعاث اللاهب ألم يكن الشعراء يغنون وقتئذ للربيع؟ ابحث الآن في كل فجج العاصمة التي ترهلت وامتدت عن شيء يلهمني فلا أجد شيئاً غير الأسمنت والسيخ وأبواب الحديد فأعود لأشجار اللبخ أمام النيل وأغني (حليل زمن الصبا الماضي).

صحيفة الانتباهة