عثمان ميرغني

السودان.. سيناريوهات “الفرصة الأخيرة”

عثمان ميرغني


خمسة من المبعوثين الدوليين يمثلون الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى المبعوث الأمريكي، حَطوا رِحالهم في الخرطوم يوم الأربعاء الماضي، في محاولة تبدو الأخيرة لحل الأزمة السياسية السودانية؛ فهذه المرة يحملون معهم العصا بعد أن باء التعويل على الجزرة بفشل وخيم طوال أكثر من 18 شهرا من الوساطات والرجاءات للأطراف السودانية أن تقبل ببعضها وتتوافق على حكومة مدنية تكمل الفترة الانتقالية.

لغة المبعوثين الدوليين هذه المرة مختلفة كثيرا، كأنّي بها تقول “لم يبق من الوقت ما يسمح بمزيد من أدب الدبلوماسية، فالوقت للحسم والقرارات القاطعة”.

التقى المبعوثون الدوليون بالحرية والتغيير -المجلس المركزي- ومعهم الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري وخرجوا ببيان لا يترك أية فرصة للشك في قوة وصلابة وقوف المجتمع الدولي خلف الاتفاق الإطاري، باعتباره الأساس الوحيد المفضي لعملية سياسية تتشكل بموجبها حكومة مدنية تكمل الفترة الانتقالية حتى مرحلة الانتخابات.

ولمزيد من تأكيد أن العصا حاضرة هذه المرة، حمل البيان المشترك لمبعوثي الاتحاد الأوروبي وأمريكا لأول مرة لغة تهديد صريحة متوعدا بـ”المساءلة” لمن يقف أمام العملية السياسية.

أي منطق قويم لتحليل النتائج لن يتفق مطلقا مع معطيات الواقع، فليس كل ما يقوله الساسة يقصدونه، وحتى لو قصدوه فغالبا لن يصمدوا عليه إلا بمقدار ما يتعشمونه من مصالح مباشرة حزبية أو شخصية، فالساسة يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون.
ومن باب سد الذرائع، التقى المبعوثون الدوليون مع ممثلين للكتلة الديمقراطية، ولكن بإشارة واضحة في بيانهم أنهم لا يَعتَدّون بهذا التحالف، ويفسرون لقاءهم بأنه مع “أطراف السلام الذين لم يوقعوا على الاتفاق الإطاري”، وهي عبارة صريحة تعني تبني موقف الحرية والتغيير “المجلس المركزي” التي ظلت تؤكد ترحيبها بتوقيع حركتي جيش تحرير السودان بقيادة مناوي، والعدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، مع استبعاد كل اللافتات الحزبية الأخرى في الكتلة الديمقراطية باعتبارها قوى لا تهدف للانتقال المدني الديمقراطي.

خلاصة المشهد الذي تمخض بعد زيارة المبعوثين الدوليين أن قطار الاتفاق الإطاري سيتحرك بمن حضر، وعلى البقية الابتعاد عن طريقه. وهو مشهد يضع السودان أمام سيناريوهات واضحة.

السيناريو الأول: أن تمضي المواجهة إلى منتهاها في مسارين، الأول داخلي بين المجموعتين السياسيتين المتخاصمتين (طرفا الحرية والتغيير، المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية)، والثاني خارجي بين المحاور الداعمة للمجموعتين.

السيناريو الثاني: أن يعلو صوت العقل فتجتمع كلمة كبار اللاعبين السياسيين وتعبر بالبلاد بكل أمان نحو بر حكومة مدنية متوافق عليها تستكمل ما تبقى من الفترة الانتقالية وتحقق الشعارات التي من أجلها سالت الدماء طوال ٤ سنوات مضت منذ تفجر ثورة ديسمبر 2018.

فما هي حظوظ هذه السيناريوهات في تشكيل الأوضاع في السودان؟

من خلال متابعتي اللصيقة لخلفيات المشهد السوداني، تيقنت أن أي منطق قويم لتحليل النتائج لن يتفق مطلقا مع معطيات الواقع، فليس كل ما يقوله الساسة يقصدونه، وحتى لو قصدوه فغالبا لن يصمدوا عليه إلا بمقدار ما يتعشمونه من مصالح مباشرة حزبية أو شخصية، فالساسة يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون.

السياسي السوداني –إلا من رحم ربي- محاصر بمقولة جيش القائد طارق بن زياد، الطموحات أمامه، والغبن الشخصي خلفه، من النادر أن يستطيع القادة الساسة التفكير من منصة المصالح القومية التي تتصل بالشعب السوداني حتى ولو أدى ذلك لكثير من الأذى الوطني وتعطيل حياة المواطن.

الصورة تبدو واضحة إذا استمر ضغط المجتمع الدولي، ستحاول مكونات سياسية ومجتمعية إظهار قوتها بممارسة لعبة حافة الهاوية، وهي لعبة قابلة للافلات من يد الجميع نحو الهاوية فعلا.
والدليل على ذلك ساطع كالشمس؛ لأي عين تتفحص أدبيات الخلافات السياسية السودانية، فلو سُحِبت الأسماء ووُضعت الأوراق والوثائق التي يرفعها كل طرف على أسنة الرمح، أمام أي عاقل بصير لما وجد أي اختلاف أو خلاف يذكر بين مكونات المشهد السياسي السوداني المتصارعة، ومع ذلك تبدو الأطراف وكأنها على وشك حرب لا تبقي ولا تذر، تستخدم فيها مصالح الشعب السوداني كبراميل متفجرة، تتقاذفها المجموعات السياسية وهي تهتف بالديمقراطية والحرية والسلام. ليس هناك خلاف حول مضمون الوثيقة الاطارية، لكن الحرب تستعر حول (مَنْ؟) يحق للتوقيع؟ وحتى هذه ليست قاصمة للظهر، فالحرية والتغيير ترحب بتوقيع مجموعتي مناوي وجبريل، وبالضرورة السيد جعفر ميرغني كون حزبه أصلا ممثل بشقيقه السيد محمد الحسن الميرغني، لكنها ترفض بقية الكتلة الديمقراطية رغم كونهم مجرد حلفاء لحركتي مناوي وجبريل واللعبة الديموقراطية تسمح بالتحالفات والائتلافات كحق سياسي تحميه مباديء حرية العمل السياسي، فكل الخلاف هنا حول (مَنْ؟) يُوّقِع؟

من الناحية الأخرى، لو انفردت بالتوقيع مجموعات مناوي وجبريل وجعفر الميرغني، فما الضرر الذي يرتد على الكتلة الديمقراطية؟ بكل يقين لا شيء، بل بالعكس ربما تستطيع الكتلة الديمقراطية استثمار تمثيلها في الاتفاق الإطاري لتوسيع القاعدة السياسية التي تتشكل بموجبها هياكل حُكم ما تبقى من الفترة الانتقالية.

بل وأكثر من ذلك، في أية دولة ديمقراطية ميزان بكفتين، حكومة ومعارضة، فان لم يكن هناك ما يكفي من المقاعد لاستيعاب كل المكونات السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري، فمن قال إن الحكومة يجب أن تسع الجميع؟ فالمعارضة الدستورية الرصينة هي أيضا جزء من منظومة الحُكم ولكن في كفة أخرى تحقق مبدأ “توازن السلطات”. ومن الممكن أن تنشأ دولة متوازنة بقوى سياسية في الحكم وأخرى ليس أقل منها قوة في المعارضة، لكن واقع السودان مختلف فالأهداف العليا دائما ضحية الطموحات والخصومات الدنيا.

الآن وقد تشكل المشهد السياسي في مرحلته الأخيرة، فالصورة تبدو واضحة إذا استمر ضغط المجتمع الدولي فستحاول مكونات سياسية ومجتمعية إظهار قوتها بممارسة لعبة “حافة الهاوية”، وهي لعبة قابلة للافلات من يد الجميع نحو الهاوية فعلا.

وإن كان من نصيحة أخيرة، فمن الحكمة استعياب الجميع في العملية السياسية دون حاجة لارغام أي طرف على قسمة يعتبرها ضيزى، وذلك بتوقيع مجموعات مناوي وجبريل وجعفر الميرغني على الاتفاق الاطاري، ثم القفز مباشرة لتشكيل حكومة مدنية تنتهي الفترة الانتقالية وتبتدر الفترة الانتقالية، وتحال بعد ذلك كل الوثائق التي تعتد بها الأطراف إلى برلمان يجب أن يتشكل سريعا ليكون صمام الأمان الذي يوفر المرجعيات و يصد الرياح السياسية إذا ما تعكرت بخلافات القوى المدنية.

هذا الأمر سهل التحقق إن استبصر الطرفان بحتمية وأولوية المصالح القومية، فاستعادة الحكومة المدنية تفتح الباب سريعا لتطبيع علاقات السودان وشراكاته الدولية وتنقذ عملية إعفاء الديون التي تكاد تنهار كليا بسبب الانقلاب العسكري.

سيناريوهات “الفرصة الأخيرة” ستفرض نفسها على المشهد السياسي السوداني قبل رمضان المقبل.

إرم نيوز