عثمان ميرغني

مَن يطلق الرصاصة الأولى؟!

عثمان ميرغني


بيان مختصر صدر من مكتب الناطق الرسمي للقوات المسلحة السودانية ينفي “النفي” الذي ورد عبر وسائط التواصل الاجتماعي منسوبًا للجيش، قال البيان: (التصريح المنسوب للناطق الرسمي بنفي دخول مجموعات مسلحة لولاية الخرطوم غير صحيح، لم تصدر أية تصريحات بهذا السياق لأية جهة إعلامية مع تأكيدنا على حكمة وصبر ومتابعة قيادة القوات المسلحة والأجهزة المختصة للحالة الأمنية، وحرصها على أمن الوطن والمواطن).

بيان الناطق الرسمي أثار موجة من الذعر، لأنه يثير هواجس المواجهة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، وهي بالضرورة حرب قد تبدأ بكلمة ولكنها لن تنتهي إلا بحريق شامل لا يستثني الأخيار.

ومربط الفرس في بيان الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة السودانية يتركز في العبارة (مع تأكيدنا على حكمة وصبر ومتابعة قيادة القوات المسلحة)؛ فبعد أن أثبت أنباء نقل مقاتلين من الولايات وحشدهم في العاصمة، جاء التأكيد على (الحكمة والصبر والمتابعة)، بما يوحي أن الأمر خارج سياق الترتيبات العادية وجزء من إعداد المسرح لعمل ما.

وهو على النقيض من بيانات صادرة على مدى الأيام الماضية من قيادة قوات الدعم السريع، بالتحديد قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو، ثم قائد ثاني قوات الدعم السريع الفريق عبد الرحيم دقلو، والتي ارتفعت فيها نغمة التسامح والتهدئة لدرجة استخدام دقلو لعبارة شهيرة قائلًا لقواته في خطاب ميداني مباشر: (إذا ضربك أحد من الجيش على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر).

الحرب ليست أُمنية أحد، لكنها بالضرورة قد تكون همسة خاطئة في أذنٍ قابلة لسماع نصيحة بأنها (ضربة سريعة خاطفة)، بعدها ينتهي الخطر وتستوي الأوضاع.
لا أحد عاقل يتمنى سيناريوهات الرعب أو أي جزء ولو يسير منها، فالسودان يكابد حاليًا حالة الـ”لا” دولة، ويمر بأزمة سياسية ضربت الاقتصاد والسياسة معًا وأثرت حتى على معيشة المواطن العادي، في ظل احتشاد العاصمة والولايات بحاملي السلاح من كل صوب.

فعلاوة على الجيش السوداني، والدعم السريع، والمخابرات والشرطة، وكلها قوات نظامية لها قانون، تتوزع في العاصمة وبعض الولايات قوات تتبع للحركات المسلحة الموقّعة وغير الموقّعة على اتفاق السلام في مدينة جوبا أكتوبر 2020. ولم يعد السلاح محتكرًا لسلطة أو قوة مركزية نظامية واحدة، ولم يعد هناك سلطة قادرة على فرض هذا الاحتكار.

ومع الانتشار الواسع لخطاب الكراهية بات الوضع أشبه ببحيرة بارود ضخمة، لا ينقصها سوى عود ثقاب صغير أو ربما مجرد عقب سجارة يلقي به عابر سبيل بلا انتباه.

كلمة واحدة أو حادثة صغيرة معزولة كافية لإطلاق الرصاصة الأولى إيذانًا بافتتاح مهرجانات “القتل المجاني” التي لا يعلم فيها القاتل لِم قَتل، ولا المقتول لِم قُتل. وهي حالة ليست خيالية، فالتاريخ سجل ورصد سوابق كثيرة ليس أقلها الحرب الأهلية في لبنان التي بلغت مرحلة القتل على الهوية، تقام الحواجز المسلحة في كل شوارع بيروت، وتتفرس الأعين في الهويات العابرة، فإذا كانت دلالات الاسم تكشف عن ارتباط جيني أو ديني بجهة أخرى، يصدر حكم الإعدام وينفذ فورًا في الشارع العام.

بل أحيانًا كانت آلة القتل تقتات بأجساد كثيرة لا يربط بينها رابط مثل تفجير دار للسينما حصد المئات من مختلف المكونات والأعمار رجالًا ونساءً وأطفالًا.

وسيناريو دولة رواندا التي حصدت فيها آلة القتل المجاني أرواح مليون خلال 3 أشهر فقط، عمل إجرامي لو أسند إلى مقاول لما أكمله بهذه الكفاءة على المدى الزمني القصير الذي نجح فيه خطاب الكراهية بجعل الزوج يقتل زوجته إن كانت من غير مِلته القبلية.

الحل في السودان يبدأ من التوافق على حكومة تنفيذية تتولى إدارة البلاد بالوضع الراهن، ثم تبتدر حوارًا بين الجميع ساسة وعسكريين للتوافق على المستقبل.
الحرب ليست أُمنية أحد، لكنها بالضرورة قد تكون همسة خاطئة في أذنٍ قابلة لسماع نصيحة بأنها (ضربة سريعة خاطفة) بعدها ينتهي الخطر وتستوي الأوضاع، وهنا مكمن الخطر الحقيقي في الحالة السودانية، المشاؤون بالنصيحة المدمرة، نصيحة الضربة الخاطفة القاضية.

هناك من يقدمون النصائح بأن ترتيب الأوضاع لم يعد هبة الحوار والمجادلات والمجاملات، بل فرض الوضع بالقوة، وأن الأمر ليس أكثر من عملية جراحية عابرة وسريعة تريح جسد الوطن من الآلام التي لم يعد قادرًا على احتمالها.

ومن هنا يُولد القرار الخطأ، بالحسابات الخطأ، فتكون النتيجة اندلاع حرب شوارع تتخذ من المواطنين دروعًا بشرية، فتتسع بحيرة الدماء ويطول أمدها و يصبح أغلى ما يتمناه المواطن السوداني أن ينجو بنفسه و أهله.

ولن يكون لهذه الحرب منتصر بل يستوي الجميع في الخسارة، وأول خسارة هي ضياع الوطن الواحد الذي يتشظى في عدة أوطان بينها ما صنع الحداد.

كل هذا السيناريو المخيف يمكن تجاوزه بأمان إذا رشُد من بيدهم القرار، من عسكريين وساسة، وجلسوا ساعة واحدة مع “كوب شاي”، بلا غشاوة ليكتشفوا أنه أصلًا ليست هناك مشكلة بمثل هذا الحجم، وأن الحل أقرب إليهم من شِراك نعالهم.

الحل يبدأ من التوافق على حكومة تنفيذية تتولَّى إدارة البلاد في الوضع الراهن، ثم تبتدر حوارًا بين الجميع ساسة وعسكريين للتوافق على المستقبل، وبمجرد تكوين الحكومة المدنية يستعيد السودان مقعده الخالي في الاتحاد الأفريقي وشراكاته الدولية الثنائية مع الدول المهمة وتعاون المؤسسات المالية الدولية خاصة برنامج إعفاء السودان من الديون الباهظة والذي وصل مرحلة متقدمة ويكاد السودان يخرج من عنق الزجاج الذي ظل يكبّل اقتصاده.

حكومة تصريف أعمال بتفويض لمدة 3 أشهر فقط، تسند إلى شخصيات وطنية مستقلة تحظى بالقبول العام، جماهيريًا وسياسيًا، وما أكثر الشخصيات السودانية المبجلة التي لن تستنكف عن هذه المهمة الوطنية اذا ما طُلِبُوا.

هذا الحل يُطفئ هواجس الحرب، لأنه يستعيد الدولة السودانية في قوامها المؤسسي، ويفسح المجال واسعًا بلا توتر لكل الأطراف للانخراط في حوار قومي بنَّاء مهما طال زمنه لن يفسد عجلة الحياة العادية للمواطن الذي سيفصل مقاديره عن مقادير الأزمة السياسية.

وعلى الرغم من الظلام الدامس، إلا أن خيوط الفجر تشرق من عدة منافذ، أولها إحساس الجميع بأن البحث عن حل هو الحل.

إرم نيوز