محمد محمد خير

محمد محمد خير يكتب.. زوجة بيكاسو


كَرَّستُ كلّ هذا اليوم لقراءة سيرة فرانسواز جيلو، الزوجة الرابعة للفنان التشكيلي العالمي الشهير بيكاسو. تزوَّج بيكاسو بأربع نساءٍ واختارَ أبغضَ الحلالِ لنفس السبب الذي دَفَعه لرمي الطلاق على الأولى.

بيكاسو يريد زواجاً يعرف كيف يُوفِّق بين الرغبة في الآخر، وبين الرغبة في الانعتاق منه؛ زواجٌ يُنظِّم المسافة بين الشريكين، بحيث يظلّ للخيال ما يفعله، وللجنون ما يتغذَّى منه، وإلا تحوَّل الزواج إلى عائقٍ منيعٍ أمام المخيّلة وإلى كابوسٍ لا فَكَاك منه.

يُعبِّر كتاب (حياتي مع بيكاسو) عن تجربة تبدو أكثر غرابةً ومدعاةً للدهشة والاستغراب، مبعثها يكمُن في اتساع فارق السن بين بيكاسو وفرانسواز التي لم تكن قد أكملت الحادية والعشرين، فما ناهز عمره الثالثة والستين، ومع أنها كانت الزوجة الرابعة له فقد ارتَضت بملئِ إرادتها أن ترتبط بهذا الفنان العظيم الذي امتدَّ عمره وأعماله على مساحةِ قرنٍ كامل.

جمالُها وصباها لم يشفعَا لها عند صاحب (الغرنيكا)، الذي يضع فنّه ورسمه قبل كل شيءٍ آخر (إن أفضَل مصدر للإلهام بالنسبة للشاعر والفنان هو الغياب).

قالها بيكاسو في إحدى أحاديثِه لزوجته التي نَقَلت لنا أجمَل السير الذاتية امتلاْءً بالمفارقات والمشاعر الإنسانية المتعارضة. كان بيكاسو، منذ البداية، واضحاً وصريحاً معها -وهي الرسامة أيضاً- أن تعرف كيف تحافِظ على المسافة التي تَعصِمُ من الضّجر وتُبقِي العلاقة حَيَّةً ومستعرة. منذ يومهما الأول قال لها بيكاسو: يجب أن لا يرى أحدنا الآخر كثيراً، فإذا كان ينبغي لأجنحة الفراشة بريقها، يجب الامتناع عن لَمسِها!.

رغم المحاولات القاسية التي بذَلَتها لإنقاذ زواجها من اللوحات، فقد وجدت نفسها تخسرُ بيكاسو بالتدريج، لأنه كان في أعماقِ نفسه منذوراً لنداء الفن وأصواتِهِ السوداء، وهو أمرٌ لم تُخفِه عنها والدة بيكاسو؛ فقد قالت لها منذ البداية: “أنت لا تعرفين ما الذي ينتظرك، لو كنتُ صديقتك لقلتُ لك لا تتزوجيه، فأنا أظن أنه ما من امرأةٍ يمكن أن تَسعد مع ابني لأن الرسم وحده هو الذي يتملّكه”.

لم يكن حديث الأم مفاجئاً لها، لأن بيكاسو نفسه كان يصرِّح لها بأن الحياة لا تتسع لقضيتين خطيرتين في وقتٍ واحد؛ فكان عليها أن تنسحب، بعد عشر سنوات من المشقة والصبر، على رؤوس أصابعها، تاركةً الرسّام في عهدة أبالستِه وألوانه التي تتصارع في القاع، وفي عهدة عزلته العميقة التي لا يطالها أحد.

يماثل كتاب فرانسواز تلك السيرة التي كتبتها إيليني، زوجة الروائي الكبير نيكوس كازاتنزاكي، الذي أمتعنا بالسرد العبق في (زوربا، الأخوة الأعداء، المسيح يصلب من جديد)؛ ذلك أن نيكوس اشترط عليها ليس أن تعيش وحدها فحسب، بل أن يقتصر لقاءهما على بضعة أيام في العام، فارتضت القبول بالأمر، مفضلةً رواياته على حياتها.

أبديت كثيراً من العطف والشفقة على زوجة بيكاسو، على خلفية الحرمان واللهب الذي يحيط بها دون ماء حياةٍ تطفيه، والنيران التي تلسعها، والجمر الذي يتمشَّى على جسدها فيما كانت اللوحات تستغرق بيكاسو. وليس أدل إلا السطر الأخير من ذلك الأنين الذي كتبته (he won the art, but he lost the virility) ، كسب الفن وخسر الفحولة. لقد وَضَعت مذكرات فرانسواز بيكاسو في وضع (لا تتمناه لأي أخو)؛ حيث إنه انهمك مع ضجة الألوان وفضاءات اللوحة و(لم يحفظ لوحو).

صحيفة الانتباهة