محمد محمد خير

محمد محمد خير يكتب: أطباء الحزب الشيوعي.. قوة الاستشهاد


الانتباهة او لاين
مسابقة عيون الشباب على التنمية

الرئيسية/الكتاب/محمد محمدخير
محمد محمد خير يكتب: أطباء الحزب الشيوعي.. قوة الاستشهاد
فبراير 11, 2023420

الاستشهاد الذي يُماثل السياق، فيعبر بالتالي عنه، ويزيده قوةً ورسوخاً لتطابقه، يزيد مدلول السياق ويمنحه ظلالاً تفيض عليه بعمق المعنى.
ينابيع الاستشهاد كثيرة، فمعظم الأحيان تكون من القرآن الكريم وآيات الله البينات، وتقتبس من أحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، ومن الحكماء وأهل البلاغة والرجاحة ومن الأمثال، لكن الاستشهاد بالشعر له كفاءة خاصة.
الاستشهاد أحياناً يقوم مقام التشبيه الكامل، ويكتسب طباقاً يجعله مزدوجاً خاصة إذا كان مثلاً شعبياً في سياق حديث فصيح، وما أوفر ذلك في حياتنا الشعبية العادية، كنت أحرص باستمرار في ثمانينيات القرن الماضي على الذهاب إلى الحاجة (خديجة ضلوف)، تلك امرأة تبيع الكوارع في الديم، كانت مع كل (غرفة كمشة)، ترسل مثلاً شعبياً أو سجعاً. ذات مرةٍ شكا روادها من خذلان الحكومة لهم في كل شيء، وكان ذلك قبيل انتفاضة أبريل بقليل، فأكدت خديجة شكواهم بمَثَلٍ ذِي ظلال (يا أولادي الفتريتة ما بتبقى رغيف)!
ما أروع المثل الدارفوري الذي يتطابق نصه مع روح الحالة (كديس ما بنشال في طبق).
اعتاد الزعماء السياسيون في السودان على ترديد بيت شعر واحد منذ ما قبل الاستقلال حتى عشية إجازة مقررات الحوار الوطني، بيت شعر يحث على الوحدة والتلاحم ويدعو لنبذ الخلافات غير أنه لم يتحقق منذ ذلك الأوان.
تأبى الرماح إذا اجتمعنَ تكسراً
وإذا افترقنَ تكسرت آحادا
ردده الأزهري والمحجوب وأبو حسبو وعمر الحاج موسى وهاشم بامكار، وربما ردده بوث ديو، وظل هذا البيت حاضراً في كل مؤتمر وحوار وندوة وليلة سياسية، غير أن أقوى استشهاد سياسي مماثل كان ذلك الذي اقتطفه الصادق المهدي من الكندي في وصفه حالة الخصومة وبينه وبين أبناء عمومته بعد خلافاته المدوية مع الإمام الهادي:
وإن الـذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جِدَّا
إذا أكلوا لحمي وفـرتُ لحومهـم
وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا
الأسبوع الماضي لفت نظري استشهاد أطباء الحزب الشيوعي الذين قدموا استقالاتهم من صفوف الحزب الشيوعي ببيت شعر لمظفر النواب:
حينما لم يبقَ وجهُ الحزبِ وجه الناس
قد تم الطلاق
بيت حارقٌ وكاوٍ ينمُّ عن تهاوي البناء وتخلخله، لكن الأدهى أن النَّوَّاب كتب هذه القصيدة (ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة)، قبل عشرين عاماً، فكأنما كان يستشرف قبل عقدين أن أطباء الحزب الشيوعي السوداني سيستشهدون بذلك البيت بعد عقدين من الزمان.
القصيدة من أكثر قصائد النواب حزناً وشجناً واستشعاراً بالضياع والانهيار، لدرجة أنه خاف أن يخرج إلى الشارع ولا يعرفه الناس:
هل أخرج للشارع؟
من يعرفني؟
من تشتريني بقليل من زوايا عينها؟
تعرف تنويني وشداتي وضمي وجموعي
إنه الشعور بالتلاشي في العدم والخوف من المجهول والعلاقة الجوهرية بين الشاعر والحلم الذي تحول من أمل يقود للانتصار إلى كابوس يزغرد بالهزيمة.
كل شيء طعمه طعم الفراق
حينما لم يبقَ وجه الحزب
وجه الناس
قد تم الطلاق.
إن فضيلة استشهاد أطباء الحزب الشيوعي بهذا البيت تأتي في سياق فضيلة الإدراك المتأخِّر.

صحيفة الانتباهة