محمد محمد خير

محمد محمد خير | أفق السر السيد الممتد


منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي انتبهت إلى السر السيد كمثقف مخلص يضع كل امكاناته العشقية لصالح الجمالية، ويسلط أصابعه الجهنمية كي يكوي بها النصوص المسرحية على سبيل الشفاء.

بدأ في معهد الموسيقى والمسرح مسيرته ناشطًا في حركة الإخوان المسلمين ولم ينسلخ عنها لكنه آثر الإقامة في (حركة الإخوان المبدعين) فطافت به الحركة نحو كل الأجناس الإبداعية فاستطاع السر السيد أن يحرر النص من كاتبه ويجعله مستسلمًا لأيدي الآخرين، فاستعاد حيويته وفعاليته الإنسانية وحضوره الفني فعندما يكون الآخر مبدعًا يكون فعل التحرر مفتوحًا على رحابة الأفق بامتياز الجمال الجدير بالإكبار.

تأكد لي ذلك وأنا أطالع كتابه الذي أصدرته هيئة الخرطوم للطباعة والنشر العام قبل الماضي حول المسرح السوداني الذي حمل عنوان في أفق التساؤل فكان أفقًا ممتدًا وسؤالاً ليس للتجريم بقدر ما هو للاستكشاف والإضافة والإجابة.

الكتابات الجادة عن المسرح قليلة ليس على نطاق السودان بل على مستوى العالم ومن هنا يأخذ مؤلف السر أهميته لأنه يتخذ ريادة في حقل الإشارات الكبيرة إليه.

أهدى المؤلف الكتاب لزوجته وابنته وابنيه وإلى عبد المنعم الجاك.

توقفت طويلاً عند الاسم الأخير فعبد المنعم الجاك على صعيد الأيديولوجيا نقيض السر وعلى صعيد الفكرة خصمه وعلى المستوى السياسي عدوه، لكن السر برحابته والتزامه بروح الجمالية أهداه هذا الكتاب وذلك دليل ناصع على استقلالية الإبداع عن الأيديولوجيا.

قسم الكتاب لقسمين أحدهما استعرض سير ومواقف وأثر المسرحيين والآخر ناقش القضايا، تعرض في القسم الأول للفاضل سعيد بوصفه صانع جمهور المسرح، ولمسرح عبد الله علي إبراهيم واتخذ من عادل إبراهيم محمد خير نموذج المسرحي العميق الواعي بقضايا المسرح وموضوعاته وقدم لنا الراحل مجدي النور كضوء سرقه منا البرق ثم تناول نعمات حماد كطليعية نسوية من نوع آخر، ثم استعرض الحكايا الشعبية من المسرح السوداني مشيرًا لجذريتها منذ خالد أبوالروس وتوغل نحو دور الدراما في نشر ثقافة حقوق الإنسان ودورها في هذا المضمار الصاعد الذي أصبحت تقيم النظم السياسية على أساس تقدمها من صونه، وكذلك رسم دوراً للمسرح في تجسيد الهوية الوطنية واختتم الفصل الثاني بالفرقة القومية للتمثيل.

يحتل المسرح موقعًا متميزًا من حقل العلوم الإنسانية والدراسات الثقافية، وذلك لأنه دون غيره من الفنون يستطيع خلق حالة احتفالية تزاوج بين العقل والعاطفة.. بين الجسد والروح.. إنه الفن الذي يصنع المشاركة الحية وتقاسم الأفكار والمشاعر والمواقف فهو فن الاعتراف بالآخر وإظهاره وفن يخرج من صميم الديمقراطية كممارسة، لذلك تعددت أساليب استخدامه، فعبر تاريخه وحتى الآن كان المسرح هو المحاولة الأصيلة لإعادة ترتيب الحياة الإنسانية وتقديم الاقتراح تلو الاقتراح لتجاوز إلى ما هو كائن إلى ما هو ممكن على كافة المستويات الوجودية والإنسانية، ولا غرابة فهو الفن الذي يمتلك بجدارة خاصية القدرة على الحكي والقص، المسرح هو العمل وهو التسلية إلا أن أجمل ما فيه هو التمثيل مع آخرين من أجل الآخرين.

هذا اقتباس من كتاب السر السيد الجدير بالقراءة والتأمل فهو صفحات من التثاقف الخلاق والتنوير النضر والأسئلة الودودة والاقتراحات الجمالية الثرة، قضيت يوم أمس كله اقرأ وأسدد نظرات إعجاب بالصديق السر السيد ولم أتوقف عن القراءة إلا حين قطعت الكهرباء!.

صحيفة الانتباهة