نزل الجنجويد على البلاد كالجراد .. سيلاً عارماً من التوحّش الهمجي
حتى قبل المهزلة التي شهدتها العاصمة الإثيوبية أديس أبابا أخيرا، كان من الواضح أن سوء فهم دولي وأفريقي كبير هو السائد لطبيعة الأزمة السودانية، ما أدّى إلى مقترحاتٍ تزيد من حدّة الأزمة بدلاً من حلها. على سبيل المثال، فإن مقترحات الهدنة ووقف إطلاق النار التي ظلت الوساطة الأميركية السعودية تتبرّع بها عمقت المشكلات ولم تساعد على حلها. والسبب أن ما يسمّى وقف إطلاق النار لا يكون في الحقيقة إلا من جانب واحد، الجيش. بينما تستمر مليشيا الدعم السريع (الجنجويد) في ارتكاب الانتهاكات ضد المدنيين، وتتوسّع فيها في الفترات التي اعتبرت هدنة، كما اعترف المتحدّثون باسمها تكراراً، فهي تجد فرصة أكبر حينما يتوقف قصف الجيش ومراقبة الطيران تحرّكاتها، فتنتقل إلى مواقع جديدة، وتحتلّ المزيد من منازل المدنيين، بينما تستمر نقاط التفتيش التي نصبتها في كل مكان في استهداف المدنيين وخطفهم وقتلهم ونهبهم وترويعهم.
صحيحٌ أن إعلان جدة الذي صدر في 11 مايو/ أيار الماضي أكّد على ضرورة إنهاء ووقف الانتهاكات التي تصنّف جرائم حرب، مثل احتلال المستشفيات، واختطاف الكوادر الطبية وقتلها، واحتلال منازل المواطنين وطردهم منها، فهذه كبائر محرّمة دولياً، حتى في أثناء القتال، ويعاقب فاعلها، وقفت الحرب أم استمرّت. ولكن ما حدث هو أن المليشيا لم تلتزم بأي من هذه المطالب، بل وسّعت من احتلال المنازل والمستشفيات، وزادت عليها جرائم الاغتصاب والتصفيات والخطف والتعذيب وأخذ الرهائن والدروع البشرية. ذلك أن وقف إطلاق النار يُلزم المليشيا فقط بعدم مواجهة الجيش، ولكنه يطلق يدها في التعرّض للمدنيين، حيث لا توجد رقابة على تصرّفاتها في هذا المجال، بسبب انتشارها الكثيف، فجنود المليشيا اختفوا داخل المنازل وفي أزقّة الأحياء، حيث ترتكب يومياً جرائم حرب وفظائع لا يمكن معرفة حجمها إلا بعد حين، فهناك مئات الأسر، وآلاف الأفراد لا يُعرف عنهم شيء، ومنها أسر محتجزة في منازلها، تتعرّض لانتهاكات لا تتصوّر، تمّت تصفية بعضهم والتخلص منهم.
لهذا، يضجّ مواطنو الخرطوم بالشكوى كلما أعلنت هدنة، لأن الفظائع المرتكبة ضدّهم تزداد عندها، مهما كانت جزئية. ذلك أن الحرب القائمة ليست في الواقع حرباً بين الجيش والمليشيا، بل هي حرب من المليشيا ضد الشعب السوداني والمواطنين العزّل. وأبرز دليل على ذلك أن المناطق التي غاب عنها الجيش أو ضعف حضوره، كما في ولايات دارفور، خصوصا ولاية غرب دارفور، شهدت فظائع بلغت هناك مستوى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد إثنية المساليت، التي سمّي الإقليم باسمها (دار مساليت). ولعل المفارقة أن الولايات المتحدة اتهمت الجيش السوداني بعدم التصدّي للمليشيا هناك، وهي تهمة صحيحة. ولكن المهزلة أن الإدارة الأميركية فرضت، في الوقت نفسه، عقوبات على الجيش، الذي كان يحتاج إلى دعم حتى يتصدّى للمليشيا، فالوحدة الموجودة في غرب دارفور صغيرة وتجهيزاتها ضعيفة، وتحتاج دعما في الأعداد والمعدّات، حتى تتمكّن من أداء مهامها.
من هنا، المطالب الحمقاء الصادرة عن أديس أبابا هذا الأسبوع عن حظر الطيران ونزع الأسلحة الثقيلة من الجيش تراوح بين الغباء والتآمر، فلولا التصدي المحدود من الجيش لانتهاكات المليشيا في الخرطوم، لكانت جرائمها غير المسبوقة تحوّلت إلى إبادة جماعية كما حدث في غرب دارفور، وكما هدّد المتحدثون باسمها. فما حدث في الخرطوم ونواحيها، ثم في دارفور أخيرا، لم تكن له سابقة في هذا البلد أو جواره منذ النازية والبلشفية، اللهم إلا اجتياح برابرة الخمير الحمر كمبوديا في عام 1975، أو سقوط ليبيريا وسيراليون في يد عصابات الجهل والإجرام البربرية في مطلع تسعينيات القرن الماضي. لقد نزل الجنجويد على البلاد كالجراد، سيلاً عرماً من التوحّش الهمجي، كنس كل مظاهر التحضر والتمدّن في المدينة: النظام والقانون، العمران، الأخلاق، الاقتصاد، الاجتماع، كل شيء يتعلق بالإنسانية. نهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم، وخرّبوا واغتصبوا وعذّبوا وقتلوا المدنيين تقتيلاً. وقد أجبر الملايين على النجاة بأنفسهم، بعدما تحوّلت العاصمة إلى جحيم لسكانها.
ولولا أن الجيش تصدى لهذه الجرائم، لكان الضحايا أكثر بكثير. فالجيش تحول في الواقع إلى “حركة مقاومة” ضد هذه الهمجية. فالجهات التي يهمين عليها الجيش بصورة كاملة، كما هو في معظم أقاليم السودان ما عدا الخرطوم ودارفور، هي التي وجد فيها الناس الأمن، ولا تزال مظاهر الحضارة والتمدن قائمة فيها. من هنا، فإن الدعوات التي صدرت من العاصمة الإثيوبية خلال اليومين الماضيين لإضعاف الجيش ستحوّل كل السودان إلى غرب دارفور، وتجعل منه مرتعاً لوحشية الجنجويد وبربريتهم. فالمشكلة ليست في وقف إطلاق النار بين الجيش والجنجويد، بل في لجم طغيان هذه الميلشيا المتوحشة وهمجيتها، وإخراجها ليس فقط من الخرطوم ودارفور، بل من الحياة السياسية في السودان جملة. وذلك بعد إنزال أشدّ العقوبات.
وقد أدى تمادي الجنجويد في جرائمهم ضد كل السودانيين بدون تمييز إلى تغيّر كبير في الرأي العام لصالح الجيش، وضد القوى السياسية التي كانت تهيمن على الساحة، فهناك الآن زلزال سياسي كبير يوشك أن يغيّر البنية السياسية في البلاد. والسبب أن القوى التي كانت تسمّي نفسها مدنية وتدعو إلى الديمقراطية فقدت التواصل مع الشارع المكتوي مباشرة بجرائم الجنجويد، وما زالت تتحدّث عن قضايا غير التي تشغل الجماهير حالياً، وتحاول بيع الوهم بأن بربرية الجنجويد مفتاح الديمقراطية في البلاد. وعليه، شمل الغضب الجماهيري ضد المليشيات القوى السياسية التي انحازت عملياً للجنجويد، وسقطت أخلاقياً بتلجلجها حتى في إدانة الجرائم التي ارتكبتها المليشيا، وشهد عليها الشعب كله شهادة عيان.
يمثل هذا السقوط من جهة جبناً في مواجهة الجنجويد، كما حدث حين أصدرت بعض الأحزاب إدانة للإبادة الجماعية في دارفور من دون أن تسمّي المجرم، وهي سقطة كبرى عند أي سياسي يبحث عن جماهير. وهي من جهة ثانية تواطؤ، حيث إن أحد المتحدّثين باسم المليشيا هدّد السياسيين المتحالفين معها ممن لم يوفوا بما وعدوا من دعم علني وقوي بفضحهم، مشيراً إلى أن هؤلاء تلقّوا الأموال، وتعهدوا “للقائد” باتخاذ مواقف واضحة، ولكنهم لم يفعلوا. وهناك أخيراً مكيافيلية عند من يعتقد أن المليشيا هي الأداة الوحيدة للتصدّي للإسلاميين. إلا أن الواقع أن هذه السقطات الأخلاقية صبّت في صالح أنصار النظام السابق، ممن كان الشارع قد لفظهم، وحتى عامة الإسلاميين ممن تضرّروا من سمعة ذلك النظام. ذلك أن “اتهام” الإسلاميين بأنهم الوحيدون الذين يتصدّون للمليشيا يعتبر في هذا الجو مدحاً، وفي وقت أصبح فيه الجيش خط الدفاع الأخير عن المواطنين وكرامتهم وأعراضهم وممتلكاتهم، وتحول الرأي العام بقوة لصالحه.
وقد حاولت جهات سياسية ترويج أن الإسلاميين هم الذين حرّضوا الجيش للتصدّي للجنجويد، وبالتالي أشعلوا الحرب، إلا أن ما تكشّف منذ اندلاع المقتلة هو العكس: أي أن هناك طائفة من قوى الحرية والتغيير زينت لمحمد حمدان دقلو (حميدتي) محاربة عبد الفتاح البرهان، وأنهم هم من أجّج الحرب، فقد راجت أخبار منذ صيف العام الماضي أن حميدتي يتطلع لرئاسة السودان، وأنه أصبح يتهجّم على البرهان في مجالسه، ويتوعدّه. كما أنه دعا بعض القبائل غير العربية للتحالف معه ضد “النخبة النيلية”، وهو شعارٌ كان الراحل جون قرنق يردّده، وتبنّاه بعض مستشاري زعيم الجنجويد ممن زيّن له تقمص دور جون قرنق. وتواترت الأنباء أن الرجل كان قد أفضى إلى بعض خلصائه منذ فترة بأنه يعتزم الانقضاض على الحكم. ولم يكتف بذلك، بل فاتح في ذلك بعض دول الجوار، طالباً المباركة والدعم. ولكن هذه الدول صدّت ما اعتبرته تهوّراً منه. وقد نشر هذا كله في الصحف السيّارة، وأصبح متاحاً لكل من ألقى السمع وهو شهيد. وعليه، ليس مصادفة أن الرجل بدأ تحرّكه الانقلابي بالهجوم على مطار مروي، مبرّراً ذلك بوجود طائرات مصرية هناك قد تُستخدم ضده. فلماذا تستخدم الطائرات المصرية ضده إذا لم يكن عازماً على انقلابٍ عرف من تواصله مع القوم أن مصر لن تؤيده؟ فهل تعرّض مصر نفسها لخطر مثل هذا بالتهجّم على مليشيا في بلد آخر هكذا بدون أي مبرّرات أو استعدادات؟
صحيح أن غلاة الإسلاميين، وهم قلّة معزولة، كانوا ينادون ويهدّدون بثورة “شعبية” ضد الحكم، وضد البرهان شخصياً، وما زال بعضهم يردّد ذلك، ويشارك حميدتي وقوى الحرية والتغيير في دعوته إلى إسقاط البرهان، ولكن، كما ثبت حين جدّ الجد، فإنهم كانوا جعجعة بلا طحن، فأكبر دعاة الانتفاضة أنس عمر لم تكن له حين دهمت بيته المليشيات حتى حراسة أو سلاح يدافع به عن نفسه، فضلاً عن أن تكون تحت طوع يده “كتائب ظل” تسدّ الأفق، وتتحدّى الجيش والجنجويد.
ومها يكن، الوضع السياسي المتطوّر لن يحدّده الإسلاميون. وبالقطع ليست مجموعة الحرية والتغيير، بل الحراك الشعبي الرافض همجية الجنجويد، ويشعر بتهديد وجودي للدولة السودانية والشعب السوداني وهويته من طغيان هذه الفئة الباغية، ذات الغالبية من الأجانب ممن لا علاقة لهم بالسودان وثقافته وحضارته. والحركة فوق أنها احتلال أجنبي بربري، تمثل تهديداً أيضاً لاقتصاد البلاد، حيث لا همّ لعصاباتها سوى النهب.
وقد قدّر أحد الخبراء الاقتصاديين خسارة الاقتصادي السوداني في الأسابيع الماضية بقرابة العشرة بلايين دولار خلال الأشهر الثلاثة الماضية. ولكن هذا التقدير لا يأخذ في الاعتبار ما نُهب من ممتلكات من الأموال السائلة بالعملات الأجنبية والذهب والمجوهرات والمقتنيات الثمينة والسيارات والإلكترونيات، … إلخ، وما دمّر من العمران والمصانع والمقرّات الحكومية والجامعات والمستشفيات. ويقدّر هذا بعشرات البلايين من الدولارات. وقد كشفت تحليلات أن عدة دول في غرب أفريقيا، منها تشاد والنيجر ومالي، شهدت ازدهاراً مفاجئاً في اقتصادها نتيجة ضخّ الأموال والسيارات والمقتنيات المنهوبة من السودان، وغضّ الحكومات في تلك الدول النظر عن تداولها.
ما سيحدّد مستقبل السياسة والقوى السياسية في السودان هو كيفية التعامل الميداني (وليس النظري) مع الأزمة الحالية، فالمواقف التي تدّعي الحياد، أو تلك التي تدعو إلى وقف الحرب، تفسّر في الشارع السوداني انحيازا للمليشيا، وهي في أحيان كثيرة كذلك. فكما ذكرنا، إذا كفّ وقف الحرب الجيش عن التصدّي لفظائع الجنجويد فلن يُجدي ضحاياها شيئاً. وبالتالي، ستحسب هذه الرمادية على أصحابها، وسيعاقبون شعبياً. وقد حاولت بعض القوى، مثل الحزب الشيوعي السوداني، الذي ظل فترة يدعو على استحياء إلى وقف الحرب، أن تركب الموجة ببيان في الأسبوع الماضي يدعو فيه إلى “بناء كيان مدني ديمقراطي يمثل غالبية شعبنا ويتحدّث باسمها في المحافل الدولية والإقليمية”. وهذه خطوة فات أوانها في الوقت الحالي، حيث القضية ليست الحديث باسم الشعب، بل استحقاقُ الحديث باسم الشعب عبر الوقوف في الخطوط الأمامية في الدفاع عنه ضد الهجمة البربرية الحالية. ففي ظل المناخ الثوري الذي يسود الساحة السودانية حالياً، لن تُجدي مثل هذه المواقف الهلامية شيئاً. الغالبية الآن تقف مع القوات المسلحة باعتبارها حالياً خطّ الدفاع الأخير عن المدنيين وعن الدولة السودانية. والإسلاميون يستغلون هذا المدّ ويتماهون معه، وسيستفيدون منه، فهم من خرج إلى الشارع وتقدّم الصفوف في مواجهة الهجمة الوحشية على عاصمة البلاد. وقد كرّرنا في غير هذا المكان أنه لا بديل للقوى السياسية التي تريد تجنّب الاندثار سياسياً من الخروج من خانة التلجلج واتخاذ مواقف حازمة ضد الوحشية التي تجتاح البلاد، وإلا فهي إلى اندثار، إذا هزم الجنجويد أو فازوا. في الحالة الأخيرة، لن تكون هناك أي مساحة لمن يسمّون أنفسهم قوى مدنية، بل ستسود بربرية تفوق جرائم الخمير الحمر، وسيكون من يسمّون أنفسهم القوى المدينة أول ضحاياها. أما إذا فاز التيار الجماهيري الكاسح الذي تشكّل فلن يسمح لمن سكتوا على الإجرام وبرّروا له، تواطؤاً أو جبناً. ولن تُجدي المواقف الرمادية مثل التي خرج بها الحزب الشيوعي، أخيرا، بعدما سكت دهراً ونطق صفراً، في هذه المواجهة التي لا مكان فيها لمن يقف على الرصيف، بل لا يوجد فيها رصيف.
وما ننصح به أن يتلاحم تيار الوطنيين العقلاء الذي أخذ يتبلور حالياً، ويجمع قوى من كل الاتجاهات، في تحالف ديمقراطي عريض، يتصدّى للبربرية الزاحفة، ويعيد إلى الوطن أمنه ودولته ومدنيّته (بكل معاني المدنية، بما فيها معنى التحضّر والتمدّن)، حتى تتحول المحنة إلى منحة، ونخرُج من الكارثة إلى برّ الأمان، وليس إلى كارثة أخرى، تستنسخ إما تجربة الإنقاذ الفاشلة، أو تجربة قوى الحرية والتغيير الأكثر فشلاً. وعلى الله قصد السبيل.
عبد الوهاب الأفندي- “العربي الجديد”