رأي ومقالات

حكاية الكتيبة السوداء: حمل الجنود المصريون والسودانيون العبء الأكبر من تلك المعركة

عام 2015 يَخرج علينا الكاتب المصري محمد المنسي قنديل برواية تحت هذا الاسم، ليحكي لنا حكاية كتيبة عسكرية تضم جنودًا مصريين وسودانيين، خاضوا معركة هناك، بعيدًا جدًّا في المكسيك بالنيابة عن آخرين.

يُؤلمنا قنديل وهو يغوص في عالم العبودية، عبر بوابة التجنيد الإجباري، ويُسجل ببراعة مشاهد الفراق والحسرة على وجوه الجنود الذين اقتيدوا عنوة وهم فتية صغار إلى حرب لا تخصهم، كفئران تجارب هدية من حاكم إلى آخر، حتى يكونوا هم من يمكن أن يموت بدلاً عن الآخرين.

لكن ما حكاية الكتيبة؟
في عام 1858، كانت المكسيك تشهد صراعًا محتدمًا بين قوتين محليتين تحاول كل منهما السيطرة على البلاد، واحدة محافظة، والأخرى علمانية، ولأن أي حرب مكلفة، فإن الطرفين كانا في حاجة شديدة للمال؛ لتغطية ثمن الحرب بينهما، وهو ما دفع كلتيهما إلى الاقتراض من الدول الأخرى، مع تقديم وعود سخية بإعادة الأموال المقترَضة بعد الانتصار. تحصل الحكومة المحافظة على قرض من مصرفي سويسري يدعى جيكر، تبلغ قيمته 750 ألف دولار أمريكي، لكنها تخسر الحرب في النهاية، فيما عليها أن تسدِّد المبلغ بفوائده الباهظة.

يُصمم جيكر على استعادة أمواله بأي طريقة حتى لو كان ذلك من الطرف المنتصر في الحرب، يلجأ إلى إقناع السفير الفرنسي في المكسيك بالتدخل ومساعدته على تلك المهمة، بإغرائه بالحصول وبلاده على نسبة جيدة من تلك الأموال، فأوصل السفير الفكرة إلى نابليون الثالث الذي أعجبه الأمر وقرَّر الخوض فيه.

يتزامن ذلك مع ما تبديه القوة الليبرالية المنتصرة من رغبة في طرد سفراء بريطانيا وإسبانيا وعدة دول أخرى، ورفضها سداد ديون بريطانيا، متحججة بمحاولات تلك الدول الدائمة من تدخُّلٍ فجٍّ في شئون المكسيك الداخلية. ولأن الشعب غاضب فإن عدة حوادث اعتداء على أوروبيين تقع في أنحاء المكسيك، ومن بين المتضررين مواطنون بريطانيون ليصبح لدى بريطانيا هي الأخرى عذر لتتدخل، آملة في الحصول على نسبتها من أموال المصرفي السويسري.

تعلن القوى الأوروبية تحالفها، لتصل سفنهم إلى المياه المكسيكية فتحاصرها بالكامل، لكن خلافًا حادًّا يقع بين الأطراف المشتركة في الحصار، مما يدفع بريطانيا للانسحاب لتنفرد فرنسا بالأمر وحدها دون منازع.

تصل قوات فرنسا إلى العاصمة المكسيكية بعد عدة معارك، ليتضح -فيما بعد- أن هدفها هو احتلال البلاد، وليس استعادة الديون وحسب، ثم تطلب من شقيق إمبراطور النمسا ويدعى ماكسميليان -والذي كان دمية في يدها- أن يحضر إلى المكسيك ليصبح حاكمًا لها.

يرفض الشعب بشدة هذا الحاكم الأجنبي، ويثور ضد العسكر المحتلين، فتفقد فرنسا 37 ألف جندي ما بين قتلى في مواجهات ميدانية، أو بأمراض الحمى والصفراء والدوسنتاريا وغيرها من الأمراض القاتلة التي انتشرت في ذلك الحين، بجانب الخسائر المالية الضخمة.

يقرِّر نابليون الثالث أن يرسل إلى والي مصر يطالبه بإرسال قوات عسكرية؛ لدعم جيشه بعد الخسائر الضخمة التي وقعت فيها قواته، معتقدًا أن الجنود المصريين والسودانيين محصَّنون ضد الإصابة بالحمى الصفراء التي فتكت بجنوده. في الشهر الأول من عام 1863 تتحرك سفينة تقل على متنها جنودًا مصريين وسودانيين، لتستغرق رحلتها 47 يومًا، تفقد خلالها سبعة من رجالها بسبب المرض. تصل الكتيبة لتجد أن الحمى الصفراء تتفشى بين الفرنسيين حتى إن قائد القوات الفرنسية في المنطقة مات بالمرض نفسه.

صحيح أن أولئك الجنود المصريين لم يُصب أي منهم بالمرض، لكن حوالي خمسين منهم ماتوا بسبب سوء التغذية، وعدم الحصول على ما يكفي من طعام يمكِّن الجنود من القيام بالمهام الشاقة التي توكل إليهم.

يدفع ذلك السلطات في فرنسا لإعادة تنظيم الأمر وضبطه، فتتحسن أوضاع الجنود، ويُمنحون سلاحًا فرنسيًّا بدلاً من المصري الذي حضروا به إلى المكسيك. الرعاية الكبيرة التي حصل عليها الجنود المصريون تجعلهم يُظهرون قوة كبيرة في تلك المواجهات، ويصبحون أكثر قدرة على تنفيذ المهام.

بنهاية عام 1863 تكون الكتيبة المصرية قد دخلت ثماني معارك قاسية وضارية تنتصر فيها كلها، حتى يقول عنها حاكم فيراكروز المكسيكية الموالي للمحافظين: «لقد حمل الجنود المصريون والسودانيون العبء الأكبر من تلك المعركة، ولقد توَّجوا تلك الموقعة بأكاليل الفخار، لم يبال أحد منهم بالنيران الكثيفة التي كان العدو يرميها عليهم من كل صوب». يرفع قائد الجيش الفرنسي رسالة إلى قصر الحكم في مصر، مادحًا ما قدَّمه الجنود فكان قرار قصر الحكم بصرف مساعدات ومعونات لأسر من سقطوا ضحايا في تلك الحرب من المصريين والسودانيين، الذين في الحقيقة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لكنها مجرد مصالح سياسية ومالية لا تخصهم بأي شكل. تنتهي الحرب الأهلية الأمريكية في عام 1865، وتتعامل الولايات المتحدة مع تلك الحرب الدائرة في المكسيك على أنها معركة لا معنى لاستكمالها، فتطالب فرنسا بسحب قواتها من المكسيك. ينسحب بالفعل الجيش الفرنسي، خاذلاً الحاكم ماكسيميليان، الذي قبض عليه في النهاية وأُعدم شنقًا بتهم التمرد والخيانة، ورفضت المكسيك إعادة جثمانه إلى أوروبا إلا بعد فترة طويلة.

تعود الكتيبة المصرية إلى مصر في أبريل/نيسان عام 1867 بإجمالي 313 جنديًّا بعدما كانت قد خرجت من مصر قوامها 450 جنديًّا، وكان ما كشفه الأطباء الفرنسيون عن تحصين المصريين من الإصابة بالحمى الصفراء لا يرجع إلى قوة خارقة أو ما شابه، وإنما كان لأن معظمهم أصيب بها بالفعل قبل أن يكونوا جزءًا من تلك الكتيبة وتلك الحرب.
«ثلاثة أنواع من البشر يجب على المكسيك التخلص منهم قبل أي إصلاح: القضاة المرتشين، والضباط الجبناء، ورجال الدين الشرهين، لن يحدث تقدُّم طالما بقيت هذه الفئات».

«ما جدوى وضع الأوسمة على صدور الموتى».
«يسمع القائد وهو يقول في أسى: ها هو أفندينا يرسلنا للحرب إلى بلد مجهول لا نعرف حتى اسمه، لا أحد يأبه بتقديم شرح أو تفسير، أرواح رخيصة تساق إلى حرب غامضة، لا نعرف متى قامت ولا لأي سبب ستنتهي، وربما نكون موتى في ذلك الحين».
هكذا قال الراوي في روايته.

أسعد طه – “الشرق القطرية”