من السودان إلى النيجر: تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد
بين التاريخ والعلوم السياسية آصرة أكاديمية لا تخفى، إذ يرصد المؤرّخ حراك الوقائع ويوثق تفاصيلها، أما تحليل أبعـادها وتداعياتها واستقراء مآلاتها، فذلـك جهـد الخبير فـي العلـوم السياسية الذي يكمل جهد المؤرّخ، والذي أيضاً لا يخلو توثيقه من التحليل. تلك عبارة تشكل رؤية الكاتب الأولية للوقائع التي تجري في القارّة الأفريقية وما تنطــوي عليه من أحداث. ينصبّ اهتمام علم التاريخ على المتحوّل، فيما الجغرافيا تتصل بالثابت، كما هو بديهي. لعلَّ كتاب الأميركي روبرت كابلان، المحاضر في تنمية القيادات في جامعــة هـارفارد “انتـقـام الجغـرافـيـا”، يمثل تمريناً أكاديمياً في الجغرافيا السياسية، وهو كتاب ينظر في الإرث الفكري الجغرافي للبيئة والمناخ والطوبوغرافيا، وانعكاسات ذلك كله في حركة التاريخ، وفي التحولات المستقبلية لحراكه. لذلك تجد المعالجــات الفكرية والتدارس الأشمل لظواهر التاريخ، مثل ما كتب صموئيل هـنـتـنغـتون عن صراع الحضارات، أو المفكر الياباني الأميركي فرانسيس فوكوياما في كتابه المثير للجدل “نهاية التاريخ”. تلك ملامح نلفت الانتباه إليها، فيما نجيل النظر إلى مجمل وقائع الاضطـــرابات التي تحوّل بعضها من خلافٍ قابل للآحتـواء إلى صراعات محمومة، ومن تنافس على السلطة في أقصى حالاته إلى نزاعٍ وحروبٍ دموية مدمّرة. تلك مشاهد نرى نماذج لها في الســاحة الدولية بوجهٍ عام، لكنها اكتسبت في القارّة الأفريقية استثناءً لافتاً لما شكّلته من تهديد للأمن والسلم الدوليين، ومن خشيةٍ لاتساع رقعة تلك الصراعات والنزاعات في أنحاء القارّة. ذلك ما حدا بمنظمات دولية عديدة، بما في ذلك هيئة الأمم المتحدة، ومنظمات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (الإيغاد) خصوصاً، لإدانة تلك المظاهر السلبية التي تمثلت في الانقلابات العسكرية وشيوع الأنظمة الاسـتبدادية في أنحــاء الـقــارّة الأفريقية. لو عدنا إلى القمّة التي دعت إليها القاهرة تحت لافـتة جـوار الســـودان، أواسط الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، يستوقفك تعبير “جـوار السودان”، فهو قد يحمل تجاوزاً عفــوياً لواقـــعٍ وتوصيفٍ تاريخيٍّ قـــديم، وهو الحزام السوداني الذي يعرفــه الجغرافيون، ويمتــدّ من سواحل البحــر الأحــمــر وهضابه إلى المحيط الأطلسي، وتختلط في مجتمعاته أعراق أفريقية وعـــربية. التــمازج البشري في ذلك الحـــزام عزّزته تاريخيــاً رحلات الحجيج من أنحاء الحزام الســـوداني إلى الأراضي الحجازية، وهي رحلاتٌ تستغرق، قبل تيسير وسائل السفر، أشهرا وربما سنوات. أنتج الإسلام الذي مازج شيئاً من الطقوس الأفريقية شـكلا من التسامح الديني في كامل أنحاء ذلك الحــزام، علتْ فيه أصــوات التصوّف الشعبي أكثر من مظاهر الإسلام الفكري الصميم. تتباين سـحنات السـكان فيه بين ملامح عربية وأخرى أفريقية وثالثة أفريقية هجينة. لا أعرف لم رجّح معمر القذافي إطلاق اسم “الساحل والصحراء” على ذلك الحـزام، عوضا عن اسمه التاريخي، الحزام السوداني؟
ما تثاءَب السودان، لكن زُلزلَ زلزالاً مدمّـراً، تمدّد تأثيـره فـرجَّ أصقاعاً في غرب حـزامه السوداني، من بوركينا فاسو والكاميرون حتى مالـي والنيجر
كان ذلك الحزام هدفا للسيطرة الكولونيالية من قوى كبرى، مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا والبرتغال وسواها، منذ سنوات القرن التاسع عشر الميلادي، فعملت على اقتسام جغرافيته في ما بينها. وتلك تحولات التاريخ في واقع جغرافي تشهد أحواله حاليا ما يشبه انتقام الجغرافيا من التاريخ، فلا كسب الحزام السوداني اتحادا بعد تفكيك، ولا سلمت أطرافه من جوْر أبنائه الذين فشلوا في إدارته، كما زادت أطماع الكولونيالية القديمة وبرزت أنيابها من جديد في بلدان الحزام. التأثير والتأثـر سـمة غالبة لمعظم مجتمعات الحزام السوداني، بغض النظر عن تقسيم أرجائه إلى دول ذات حدود سياسية ولها مساحات شاسعة، مثل السودان والجزائر، وأخرى ذات مساحاتٍ متواضعة، مثل إريتريا ومالي والنيجر، وتمازجت جميع أعراقها وإثنياتها وقبائلها، تمازجاً يمضي سلساً مع الجغرافيا ومرتبكاً مع التاريخ، تأثّراً وتأثيراً. وما تثاءَب السودان، لكن زُلزلَ زلزالاً مدمّـراً، تمدّد تأثيـره فـرجَّ أصقاعاً في غرب حـزامه السوداني، من بوركينا فاسو والكاميرون حتى مالـي والنيجر. إذا حـدَّث التاريخ عن انتفاضــات تاريخية قديمــة في غــرب القارّة في أنحـــاء الحــزام السوداني، من محمد أحمد المهدي في الســودان، إلى دان فـوديـو في غــربي ذلـك الحـزام، فتلك جذور ظهـر لها نبتٌ في السودان المعاصر. لقد عمل عرّاب التيار الإسلاموي في السودان، الشيخ حسن الترابي، ومنذ سنوات السبعينيات، وعبر نوافذ تنفـيذية مؤثرة، على ترسيخ الفكر الديني في بعض الأنظمة التعليمية، وأيضا في التاثير على عقيدة الجيش النظامي للبلاد.
الصراع الدولي بين الدول الكبرى يصل حتى أصقاع الحزام السوداني في السودان، مالي والنيجر
نجح الترابي في التأثير على حاكم السودان الأسبق جعفر نميري، أوائل الثمانينيات، لإعادة تأهيل ضباط الجيش في دراسات في معهد إسلامي، أنشئ في عام 1966 وتطوّر إلى مركز إسلامي أفريقي في 1972، ثم تدرّج بعد قيام الجبهة الإسلامية بانقلاب الإنقاذ عام 1989، ليصير المركز جامعة سُـمّيت “جامعة أفريقيا العالمية”. وقد يتساءل المرء لماذا أسبغت صفة العالمية على مؤسّسة أكاديمية خصّصت في الأصل لقارّة بعينها، إلا أن الإجابة تكمن في تلك الرغبـة الخفية والغالبة في التأثيــر، على الأقل، في دائـرة البــلدان المجاورة للسودان، إن لم يكن ليصل إلى حـدِّ تصدير ذلك الفكر إلى أبعـد من ذلك. مثل ذلك الطموح السياسي غير المبرّر هو الذي جلب لنظام الإنقاذ البائد في السودان وقتذاك تهمة الإرهاب الدولي، وما برئ منها إلا بعد إسقاط نظام البشير في 2019. بلغني ممن أثق في معلوماته أن قائد حرس رئيس النيجر المخلوع بوزوم الكولونيل عبد الرحمن تياني، والذي انقلب على النظام الديمقـراطي في نـيامي، هو خرّيج جامعة أفريقيا العالمية تلك. وثمّة ما يستخلص من خطورة هنا، إن مؤيدي الانقلاب العسكري في النيجــر رفعـوا أعلام روســيا الاتحادية، في وقت تستضيف فيه الأخيرة قمّتها مع البلدان الأفريقية. ليس ذلك ما قد يلفت أو يحرج رئيس روســيا، بوتين، بل واقعة ظهور نجم “فاغنــر”، الضابط “طبّاخ بوتيــن”، ليلتقي بعدة زعماء أفارقة ضيـوف تلك القمة في موسكو، ليذكّر أن الصراع الدولي بين الدول الكبرى يصل حتى أصقاع الحزام السوداني في السودان، مالي والنيجر.
جمال محمد إبراهيم – كاتب سوداني وسفير سابق
العربي الجديد