رأي ومقالات

كلما أحسست برتابة المواقف الأيديولوجية والشعارات الشوفنية لواقع السودان هرعت إلى جمال محمد أحمد

” جمال محمد أحمد 1915- 1986م ” مفكر ثقافي سوداني ، أكثر من أفصح عنه ، في مقلات نقدية ماتعة ، هو الناقد ” عبدالمنعم عجب الفيا ” الذي كشفه بإبداع كتابي مائز الأفكار خاصة مقالته : ” جمال المفكر والنموذج الغائب ” محللا لأقواله وسردياته الكتابية ، بوصفه ، عالم وباحث وكاتب ضليع في اللغتين العربية والإنجليزية له أسلوب متفرد في الكتابة ..

وهو صاحب أحد أميز ثلاثة أساليب في النثر السوداني الحديث – حسب عبدالمنعم عجب الفيا – وقد نبغ جمال في اللغة العربية حتى أختير عضوا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة .

أكتب هذا المقال بذلك العنوان وغايتي ، تحديد الخلفية المرجعية المتحكمة في الكتابة مؤسسا أقوالي النقدية وليدة الرؤية الخاصة عنه ، معتبر أن جمال محمد أحمد هو مثال للنبوغ ، والنبوغ هو أعلى درجة في الإبداع والخلق . كان كاتبا أكبر من مجرد كاتب من الكتاب أو مجرد اسم من اسماء الكتاب السودانيين ، إذ كان وشما وعلامة دالة على مخيال فكر مبدع باهر العطاء والتجدد .

النبوغ والعبقرية هما أهم سمات جمال محمد أحمد وإبداعه الكتابي الزاخر بالفكر المتوهج المتجدد .
وجاء في كلمة الطيب صالح عنه في : ” سيرة كاتب سرة شرق ” .. لم يكن شخصا بالمعنى المعروف للكلمة ولكنه كان مثل زعماء الأحزاب أو قادة المدارس الفكرية ، له حواريون وأتباع وأنصار ، كان إنسانا جذابا إلى حد أن عدد غير قليل من حواريه أخذوا يقلدون طريقته في الكلام والمشي والسلوك ، وكان في سلوكه على سجيته تماما لا يفعل شيئا لا تألفه نفسه .
كان جمال محمد أحمد – رحمه الله – نسيجا وحده بأدق معاني الكلمة ، في حياته وفي فكره ، وكان أسلوبه من الأساليب المميزة في الأدب المعاصر – الكلام لا يزال للطيب صالح – كان إذا رثى الشاعر الشاعر الإنجليزي لوى ماكنيس ، أو إذا وصف لقاءه بالبابا ، أو حدثك عن أيامه في جامعة هارفارد ، خلق لك عالما طريفا مدهشا ، تتماوج فيه الأضواء والظلال ، والإبتسام والسخرية ، والفكرة والأحاسيس ، شأن كل أدب عظيم ، فإذا تسمع وترى وكأنما لأول مرة ، وإذا روحك تنتعش كأنك سبحت في بركة صافية ذات صباح جميل ، هكذا كان ضوء كأنه مجموعة أضواء .

وفي إستدركات الطيب صالح عن جمال محمد أحمد يقول :
أقول إنني أهرع ، كلما أحسست بالملل والرتابة إلى احد كتبه على قلتها وصغر حجمها أفتح الصفحات كيفما اتفق وأقرأ ، فتنعش روحي وأصيب نشوة قل أجد لها مثيلا عند كاتب آخر ، ولك أن تستغرب ذلك ، فهو ليس بشاعر ، ولا هو قاص ، أو روائي ، وقد يرى البعض أن الموضوعات التي يكتب فيها مرتبطة بحقبة تاريخية بعينها وربما يرى آخرون في أسلوبه وعورة ولكن هذه الوعورة – إن صح هذا الوصف – فهي للقارئ المتمترس في أسلوبه ، الحلاوة والطلاوة التي أضفت على أسلوبه التميز والفرد .

في حضرته يتملكني إحساس مزيج من الرهبة والتبجيل والمحبة ، فهو يكتب بإخلاص شديد كأنه يؤدي صلاة وكأن الكتابة عنده نوع من التنسك والرهبنة ، هي مجاهدة للإمساك بتلابيب الحس ، أنظر إليه كيف يعطف ويحنو على الكلمات كأنها فلذات كبده : واقرأ الغداة ما كتبت في العشي وأهم بأن أقتطع فقرات ليتصل الحديث ، فقرأت ، أقول إنها فضول ، تحول دون السرد المتصل الحلقات .. وتعز الكلمات علي ، أحنو عليها ، أحجم أقول :
ماذا جنت لتذبح ، كان عناء أدوعك ألا تشقى به كما شقيت .

تأسيسا على ذلك القول ، فأنه يمكن القول وفقا لرؤيتي الخاصة أن جمال محمد أحمد ، في منجزه الكتابي لم يكن لسان حال نفسه وحدها ، وإنما كان مثالا للعقل المفتوح في وجه كل الكتاب والكتابات ، فهو ملتقى الأفكار المبدعة الصادقة ، ولأن أي ملتقى – كيفما كان وأينما كان – هو في نفس الآن مفترق أيضا ، فهو يؤكد على التعدد دائما ، ويؤكد على الإختلاف الذي لا يفسد للود قضية ..
وتإكيدا لذلك المعنى إقرأ معي يرعاك الله ، ما أورده عبدالمنعم عجب الفيا قائلا :
جمال من المفكرين والكتاب السودانيين القلائل الذين حظوا باحترام وحضور كبيرين خارج السودان في العالمين العربي والغربي في إفريقيا .

وفي بناء المعنى نفسه وتأكيدا للسياق الكلي له يعمل – عبدالمنعم عجب الفيا – على إكماله ، بقول الطيب صالح عنه بذات التلفظ المتلطف في الكشف عن جمال محمد أحمد فيقول :
كان بين مثقفي الإنجليز كأنه واحد منهم ، وبين مثقفي إفريقيا كأنه واحد منهم ، وكان عاشقا للعروبة ، جمع جمال كل هذه الصفات التي تبدو متناقضة بلا أدنى جهد أو مشقة فقد كانت شخصيته خالية تماما من التوتر والعنف .

وهو كذلك فقد كان يكتب عن إفريقيا بمعرفة ومحبة حتى تخاله أحد مؤسسي حركة الزنوجة ، ويكتب عن العرب بكل المعرفة بكل المعرفة والمحبة حتى تكاد تنسى ما قاله عن إفريقيا للتو ، نظرة متوازنة قل نظيرها بين أنداده ، تكشف عن عمق التصالح الداخلي واتساع الرؤية لديه ، إننا في السودان أشد ما نكون الآن إلى هذه النظرة المتسامحة المتصالحة التي تنهض على الإنفتاح والإستيعاب لا على النفي والإقصاء والإبعاد ، سأله الصحفي المصري مفيد فوزي : ما هو أسخف سؤال مر بك ؟ فأجابه : هذا السؤال السمج هل السودان عربي أم إفريقي ؟ وكنت أقول لعل عبقرية السودان تكمن في محتوى السؤال .

وسخف السؤال ، يكمن عندي ، في أن سائله يذهل عن عبقرية المكان وخصوصيته ويستبطن الإجابة بأحد الخيارين : إما هذا ، وإما ذاك ! النظرة العوراء عينها التي عناها مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال مخاطبا أصحابها : ” إلى الذين ينظرون بعين واحدة ، فيرون الأشياء ، إما سوداء ، وإما بيضاء .

هذه الرؤية المتوازنة لواقع الثقافة السودانية ، لم تكون وليدة مواقف أيديولوجية أو شعارات شوفينية ولكنها ثمرة النظرة الواقعية الجدلية التي تستصحب المعطى الثقافي في الكل المركب بتعيناته المتشابكة .

فقد كتب جمال محمد أحمد عن ذلك التشابك الوجداني – الإفريقي العربي – بتعيناته المتواشجة ” مطالعات في الشؤون الإفريقية ” عن الأدب الإفريقي الحديث معبرا عن تطلعات وأشواق الإفريقي وصدر له عن دار الهلال بمصر عام 1969م
كما كتب ” وجدان إفريقيا ” وهو كتاب عن الأدب الإفريقي والأديان في إفريقيا وكيفية تعايش الإسلام والمسيحية مع الديانات والمعتقدات الإفريقية وكتب ” في المسرحية الإفريقية ” وكتب ” سالي فو حمر ” وهي مجموعة من الحكايات الشعبية الإفريقية – كما أبنت ذلك في كتابي : الدراما والهوية في شعر محمد عبد الحي – حاول فيها جمال محمد أحمد أن يمثل فيها إفريقيا ، وإن كان لم يبتعد عن الجانب العربي من إفريقيا ” الصومال ، تشاد ، إثيوبيا ، زنجبار ، عفار ، السودان وكينيا ” أي الأجزاء المجاورة للسودان ، وقد اتخذ جمال منهجا إبداعيا في صياغته للحكايات بقوالب وأساليب تمثل إعادة لصياغة المأثور الشعبي ويحشد الحكايات بمفاهيم ومواقف فكرية جادة . برغم أنه أراد أن يجعل خطابه الإبداعي موجها للأطفال كما أثبت في مقدمته مشيرا إلى أنه يخص بهذه الحكاية طفليه ” عارف وعكاف ” إلا أن هذا وفي ظني يعد إحدى الأبعاد الدرامية التي استخدمها لإيهام المتلقي . ونص ذلك في قوله : اقرأوا أيها الصغار ” سالي فو حمر ” وإخواتها من الحكايات الإفريقية .. وإشرت في الكتاب نفسه أن ” سالي فو حمر ” هو أدب يحمل الفكرة ويمثل أداة للثقافة المعرفية وذلك أدب ذو وشائج متصلة باتجاهات المثقفين السودانيين في عقد سنوات الستينيات ، بل يمثل مدرسة فكرية ذات إنتماء سياسي إجتماعي لذلك الجيل وهي ذات الأفكار التي تشربت بها بقية الأدوات والأنماط الإبداعية من مسرح وشعر وقصة .

” سالي فو حمر ” برغم ما تحمل من أهداف فكرية واضحة فإنها أقرب إلى حكايات ” ألف ليلة وليلة ” ولعل شخصية ” سالي ” تقربنا إلى ذلك كما أسماها جمال ” شهر زاد بلادنا ” .. أضف إلى ذلك أنها تحمل معالم الأسطورة المحكية . مما يعبر هذا الخط إلى مفهوم الثنائية ” الأفروعربية ” وإن نجد في قصة ” سالي فو حمر ” ملامح تاريخية تماثل القتل الطقسي للملوك عند الفونج وغيرها .

إلا أن البعد الإنساني يتدثر خلف الجدر الوهمية ” الزمان والمكان ” وبقدر كبير في الحكاية ، التي تتلخص في أن الكهنة تعودوا على قتل الملوك بطريقة طقسية ، عندما تأمرهم النجوم بذلك ، وهذا القتل يرتبط بإطفاء النار المقدسة وقتل الصبي والصبية الذين أوكل إليهم حراسة النار المقدسة ، واختار الملك ” عكاف ” أخته ” سالي ” لتحرس النار وأحد المغمورين من عبيده ويسمى ” فارلماس ” ليكون رفيقه في الموت ، والمعبد – المسرح المكاني – وهو في قبضة الكهنة ممتلئ بمنظر القرابين الحيوانية وأحيانا الكهنوتية المدمرة السافكة للدماء ، وكانت الزراعة والتجارة والصناعة والتعدين تزدهر ، ويظهر الفقراء والأغنياء والعبيد يعملون في تعدين الذهب والنحاس برضى وانشراح متمتعين بتعاطف الملك ” عكاف ” الذي كان يواسيهم ويتفقدهم دوما ، وبينما كانت ” سالي ” تجسد قيمة الحياة وما تشمل من حب ومتعة ، كان في الجانب الآخر ” الكهنة ” على النقيض من ذلك فقد كانوا يهتمون بالموت ويرعونه .
ويقف مع ” سالي ” ، ” فارلماس ” بجمال صوته وسحر قصصه وخياله وقدرته في التأثير على المستمعين ، وهذا التحالف بين الجمال الساحر الذي يتمثل في ” سالي ” وهو صوت ” فارلماس ” الحكواتي المعنى بتدمير أجساد الكهنة بقوة الكلمة ، وعلى أثره يقوم نظام إنساني آخر في ” نبتة ” إلا أن هذا لم يستمر طويلا إذ إستطاعت قوى الشر من بقايا الكهنة وأعداء ” نبتة ” من ملوك العالم والبلدان المجاورة من تدميرها خوفا من أن يصل صوتها إليهم وتكرار التجربة في أنظمتهم الكهنوتية .

ونجد أن جمال محمد أحمد في ” سالي فو حمر ” قد استخدم ” الفنتازيا ” في الزمان والمكان بقصد التمويه حيث استطاع تخيل المستقبل عن مركزية السودان وعالمية حضارته في ثياب الماضي ، كما استطاع أن يصور الإفريقية من خلال المركزية السودانية ” بوتقة ” تفاعل إفريقي من خلال تفعيل مستوى المتخيل الأسطوري .

هذا الموقف المتوازن من الأصول الأفريقية للثقافة السودانية التي إلتمعت في الإبداع الكتابي عند جمال محمد أحمد إمتدت خيوطه في تشكيل جيل الستينيات من الأدباء والكتاب السودانيين وابرزهم الطيب صالح نفسه ، الذي قال وجريا على لسان ” إيزبيلا سيمور ” :
” سألت إيزابيلا سيمور ، مصطفى سعيد ، بطل رواية ” موسم الهجرة إلى الشمال ” ما جنسك ؟
هل أنت إفريقي أم آسيوي ؟
فأجابها أنا مثل عطيل ، عربي إفريقي .

فنظرت إلى وجهه وقالت :
نعم أنفك مثل أنوف العرب في الصور ، ولكن شعرك ليس فاحمًا مثل شعر العرب ” …
بيد أن ذلك التوازن في ذلك الجيل من المثقفين السودانيين ، إلى أي مقدار خبا وهجه وانطفأ بريقه في عصر جيلنا هذا وتقدمه ، وإلى أي مسافة بلغنا من التضاءل المميت …
إنه عصر الخيبات الكبيرة والهزائم المهولة والأوجاع .

الدكتور فضل الله أحمد عبدالله