رأي ومقالات

مصير حميدتي… المعلن وغير المعلن

ثمّة موتٌ مُعلن وآخر غير مُعلن، ولا بدّ من أن يكون وراءهما ما هـو أكثر من معنى وأعمق من مبرّر. لو كان ذلـك الموت المُعلن أشـبه بما ما قصّهُ عليـنا غابرييل غارسيا ماركيز لكان الأمـرُ يسـيراً، وليس فيه لغــزٌ مُحيّـرٌ يذكــر، إذ إن المبـرّر معروف، وهو لغسل ما لحـق بسمعة عائلة من مساسٍ بشـرفها أمام المجتمع الصغير الذي جرت فيه جريمة القتل المعلن الذي كان موضوعا لرواية “قصة موت معلن” للروائي الأميركي اللاتـيني الأشهر. ولكن حين يختلط القتل بخفايا السياسة، ويخالط مؤامراتها التي تحاك بليلٍ ونهار، سـيرتبك الأمر، ليس فقـط على جانب القـاتل، بل على جانب القـتـيـل، فنـرى أنّ الإعــلان عـن المـوت يخضع لحساباتٍ معقـدة.

حينها سيصبح إخفـاء خبـر الموت سلاحاً في حدّ ذاته، وليس محض خبرٍ يعلن، إلا وفق حساباتٍ تتصل بتداعيات ذلك الموت، وتوقيت إعلانه، ولِـم يُعـلـن، وكيف يُعـلـن، ومن يُعلـنه، خصوصا لو كان الموت أو التغييب يتصل بموت جنرال و”جنرال في متاهة”، لو جاز لنا استلاف عنوان لرواية أخرى لماركيز. لعلّ أوضح مثل يوضح ما رمينا من تبيانه هنا ما اتصل بحالة موت أدولف هتلر. … لقد انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار قوات الحلفاء في أواســط عام 1945، والحلفاء هم من مثلوا الدول الأقوى في العالمين، الغربي والشرقي، إذ أجمعوا على دحر قوات المحور التي يقودها هتلر الذي دوّخ الغرب والشرق سنوات خمسا. انتهت الحرب بهزيمةٍ منكرة لقوات الرايخ الثالث، ولكن الشائعات لحقت بمصير الزعيم الألماني المهزوم، وبات واضحا أنَّ القوى الكبرى التي شاركت في هزيمته، وهي في الغرب الولايات المتحدة وبريطانيا أساساً، وفي الشرق القوات التابعة للاتحاد السوفييتي السابق.

تقاطعت أجندات وتباينت مصالح، لكن أميز ما انتهتْ إليه الأمور أن الحلفاء اقتسموا كعكة ألمانيا المهزومة إلى دولتين، ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية، وفق ما انتهى إليه مؤتمر يالطا في نهاية تلك الحرب. ولجدار برلين الذي شُــيّد ليفصل بين الألمانيتين رمزية منحت المعنى الأكبر والأعمق للمواجهة بين العـالم الغربي بقيادة أوروبا والولايات المتحدة والعالم الشرقي الذي تزعّـمته موسكو، وقت أن كانت عاصمة لدولة عظمى اسمها الاتحاد السوفييتي، فكانت تلك بداية حقبة الحرب الباردة. صار ملفّ موت الرّجل الذي دوّخ الغرب والشرق غامضاً في السـاعات الأولى من آخر يوم من شـهر إبريل/ نيسـان من عام 1945.

في ذلـك الـيـوم في برليــن، اختفـى الزعيم الألماني المهزوم، فجاء من زعم أنه انتحر بتجـرّع السُّـم، ومن زعـم أنهُ قتل نفـسَه بمسدسه.

صار إعلان مصير الرّجل موضوعاً لتدابير ولظـروفٍ سـياســية اختلـفـتْ بشأنها القوى التي حققت انتصارها في الحرب العـالميـة الثانيـة. تضاربت الشــائعات بشأن مصير هتلر، بين شــهاداتٍ لمقرَّبين منه أنه انتحر وأحرقـت جثـته، وشـهادات أخــرى روّجتْها موسكو، وبلسان الزعيم الروسي جوزيف ستالين نفسه، أن الطاغية الألماني ربمـا فرّ إلى أميركا اللاتينية، وما غيّرت موسكو تلك التصريحات. بين شـدٍّ وجذبٍ، توافقت الكتلتان، الغربية والشرقية، على تشكيل لجنة دولية للتقصّي، عملت أشهرا طـويلة للتوصّل إلى حقيقة مـوت الزعيم الألمـاني، وانتهت إلى ترجيح انتحاره، وأنّ جثته أحرقت، ولكن لم تجـزم أية جهة بحقيقة أسـلوب موته على وجهٍ نهائي وقاطع. وهكذا بقي موت هتلر ملفاً غامضاً، بل ظل مقتله أحجية يحيط بها غموض، وصارت سنوات موضوعاً لتقارير وكتب سـوّدت بأدلة بائنة وبتخرّسات مشكوك فيها، تواتر ظهورها بشأن حقيقة موت أدولف هتلر، منـذ حقـبة الخمسينيات إلى حـقـبة السبعينيات. كان ذلك موتاً غير معلن في وقت، ثم مـوتاً معلناً في وقت لاحـق. رأى المتابعـون أن الأمر خضع لتجاذبٍٍ بين أجنـدات متناقضة لقوى دولية كبرى، إذ تمسّكت كلّ جهة منها بما رأته حقيقة ثابتة من منظورها. كان للسياسة إذاً مداخل وتقاطعات، شكل فيها مـوت الزعـيم النازي واحدا من ملفـات التوتّر بين الكتلتيـن، وهما يفتتحان ســنواتٍ عرفت لاحقــاً بسـنوات الحرب الباردة. لعلّ الاستخفاف بنبأ من مات أو لم يتأكد موته، من الجنرالات المتقاتلين في السودان، لا يبدو من المنطق في شيء، بل هو متصل بتطورات المواجهات العسكرية الدائرة في الســودان. لقد دارت الحرب في 15 إبريل/ نيسان 2023، بين طرفين ســودانيين، الجيش الرسمي للدولة السودانية ومليشيا قوات الدعم السريع من جهة أخرى. توافقا على إســقاط نظام الإنقـاذ الذي سـيطر على السودان منذ 1989، وذلك إثر ثورة شــعبية في إبريل 2019. اختـلف الجنرالان، قائد الجيش الرسمي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد المليشيا الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) بعد ذلك لأسباب معقدة، وتورّطـا في مواجـهـات عسكرية أفضت في ذلك القتال إلى أن يتحوّل إلى حربٍ مدمّرةٍ بينهـما راح ضحيتها المدنيون، قـتلاً ونزوحا وتهجيرا، غير أنه، وخلال الأسبوع الأول من اندلاع القتال، اختفى أو غيّب نفسه أو غيّبته جهة ما، قائد مليشيا الدعم السريع، فيـمـا يتواصل القتال منذ أكثر من خمسة أشهر، وصــار ملف اختفاء قائد مليشيا الدعم السريع أو تغييبه، الجنرال (من منازلهم) محمد حمدان حميدتي، ملفاً غامضاً لم يجرؤ أيٌّ من الطرفين على الكشف عن ملابسـاته. ظلّ اختفـاء الرّجل أمـام أجـهــزة الإعــلام، أو تغييبه، هاجساً حيّـرَ القـنـوات الفضائية التي تتابع تطوّرات أحداث القتال الدائر في السودان، برغم سـطوة الإعـلام المفـتـوح بقــدراته الفائـقـة في ملاحقـة الأحداث بالصورة والصوت.

يتساءل المرء: كيف تعجز القنوات الفضائية، بل وأجهزة المخابرات، سودانية أو دولية، تمتلـك جميعها قــدرات على سبر أغوار كلِّ ما قــد يخفى في أية ســاحة في مختلـف أنحاء العـالم تشهد قـتالاً أو مواجهاتٍ مسلحة، لحظة وقوعها، كيف لا تهتدي إحداها إلى مصير قائد لقوات من مليشيا غير نظامية، تكاد أن تهزم قوات نظامية للدولة السودانية؟ لربّما يتبادر إلى الذهن أنّ هذا العجز جاء بسبب اختلال في حسابات كلٍّ من الطـرفين المتقاتلين، إذ ملكت مليشيا الدعـم السريع من القــدرات ما مكّنها مـن السيطرة علـى العاصمة السودانية، بأكثر ممّا لقوات الدولة الرسمية من قدرات. تؤكّد الصورة حاليا في العاصمة الخرطوم وقوع معظـم المواقع السيادية، كالقصر الرئاسي والأجهزة التنفيذية في الدولة، إضافة إلى مطار الخرطوم ومؤسسات الاتصالات والأجهزة الإعلامية للدولة، تحت سيطرة المليشـيا.

تمكّن قائد الجيش الســوداني الذي كان يدير العمليات العسكرية من وراء ستار من الخـروج، بعـد أكثر من أربعـة أشـهر من الاختفاء في مباني قيادة الجيش الرسمي في الخرطوم، وغادر إلى بورتسودان التي صارت عاصمة غير معلنة للبلاد، بعد ما تبين للرجل استحالة إدارة الدولة من العاصمة.لم تفلح جهود ايقـاف الحرب، وللأســف، تمّ تأجيل التفاوض أشــهرا طــويلة، وظلت الأطراف المشفقة على أوضاع الســودان، إنْ في الجــوار أو من المجتمع الإقلــيـمي أو الدولي، تتابع تدهورها سـلباً، فبدتْ في انتظــار نتيجة رهان على إحداث إنهاك متبادل، يضعف طرفي القتال. إن كانت حرب السودان حربا بين جنراليـن، فـقـد خرج أحدهما للعلن، وهو قائد الجيش الرسمي، وقد ذهب إلى نيويورك، وخاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة، فيما اكتـفى الجنرال الآخر المختفي أو المغيّب ببث تسجيل يشــكك في قيادة الجنـرال البرهان الدولة السودانية والحديث باسمها، غير أن الجيش الرسمي للــدولة، ويا للعجب، لم يقدم على التعليق أو الإعلان بشأن مصير قائد المليشيا، فإن فعل لربما زاد ذلك أوار الحـرب، ويضــاعــف وقوع تجاوزاتٍ ستقع تبعاتها حتماً على المدنيين من السكّان، فيتعرضون لمزيد من الانتهاكات على أرواحهـم وممتلكاتهم. من جهة ثانية، قد لا تجرؤ قيادة قوات المليشيا الحالية على إصدار أي معلومة عن غياب قائدها المختفي أو تغييبه، ذلك الذي يرتدي لباس الجنرالات، محمد حمدان حميدتي، خشية أن يترك ذلك تأثيراً سـلبياً على الروح المعنوية لقــواتٍ تقاتل الجيش، فـيما تتزايد الشكوك بشأن هوية قوات تلك المليشيا أو تبعيّتها للسودان.

وعلـيه، إن كان مصيـر قائدها مـوتاً معلناً أو غير معـلن، لربما أدّى إلى تشــتـتها وانهيارها، برغم تلقّيها إسناداً خفياً من أطراف خارجية، يرجّح أن يكون عبر ليبيا أو تشاد. أما السّـفير السوداني المعتمد في ليبيا، وهو من الضباط المقرّبين لقائد الجيش، فما كان حصيفا، ولا هو يفهم في الدبلوماسية، فقد أحرج كلّ الأطراف المتورّطة في القتال، سـواءً في قوات جيش الدولة أم في قوات المليشيا، بتصريحه الأخـرق، مدّعـيـاً أن قائد المليشــيا قد شـبع مـوتا. وللعجــب لم يصدر تأكيـدٌ أو نفيٌ مـن أيٍّ مـن الطــرفين لما قاله الرّجل عبر فضائية عربية شهيرة.

ولكن قول السفير هذا مناسبه لرسـالة إليه، إنه ليس كلّ ما يُعرف يُقال، كما هي رسـالة أيضاً لمن عيّنهُ سـفيراً، أنّ الدبلوماسية ليست مهنة يمارسها مجاناً عسـكريون أو مدنيــون، بل هي مهنة لها أعرافها وتقاليدها وأسرارها، ولا يجب لكلِّ متنطع ليقـول عبرها ما عـنَّ له من دون حساب، فيحرج الجـهة التي ابتعثـتـه لتمثيـلـها، قبـل أن يُحـرج نفسـه ويتركـها عُــرضـة للسخرية والتهـكّـم، خصوصاً في وسائط التواصل الاجتماعي المفتوحة والمتاحة للجميع.

جمال محمد ابراهيم – العربي الجديد