رأي ومقالات

تكتيكات واستراتيجيات عسكرية .. دروس مستفادة من التاريخ (١ )

في غزوة الأحزاب “الخندق” ، وفي أوج حصار المسلمين ومعاناتهم ، وهم يتحصنون داخل المدينة ، ويحفرون الخندق لحماية أنفسهم من العدو المحتشد، اذا برسول الله ﷺ يحطم الصخرة الضخمة التي استعصت على الصحابة كلهم، وهو يكبر ثلاثا ويقول : ( في الأولى أعطيت مفاتيح الشام ، والله إنى لأبصر قصورها الحمر، وفي الثانية يقول أعطيت مفاتيح فارس، والله إنى لأبصر قصر المدائن الأبيض، وفي الثالثة قال أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنى لأبصر أبواب صنعاء من مكانى الساعة ).

وفي ظل هذه الأجواء المتوترة والمشحونة باليأس والضعف ، والعدو يتربص بالمسلمين من وراء الخندق – وهم يمثلون في ذلك الوقت تقريبا تحالف كل جيوش المجتمع الاقليمي المحيطة بدولة المدينة – ووسط خيانة ونقض العهود من يه//ود بنو النضير ميثاقهم مع رسول الله .
لقد نجح بذلك ساسة اليه//ود وقاداتهم في تأليب وحشد أحزاب الكفر على النبي ﷺ فخرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم من أهل تهامة – في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت من الشرق قبائل غطفان – بنو فزارة وبنو مرة، وبنو أشجع، وخرجت بنو أسد وغيرها.

واتجهت هذه الأحزاب نحو المدينة وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عرمرم بلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ.

وصل الخبر إلى المدينة قبل ذلك فسارع رسول الله ﷺ إلى عقد مجلس استشاري مع أصحابه تناولوا فيه خطة الدفاع عن المدينة، واتفقوا على مقترح مبتكر وهو حفر الخندق ، قدمه الصحابي “سلمان الفارسي”.

كان النبي ﷺ يشارك المجاه//دين الحفر وكان يحمل التراب على كتفه وكان الغبار يملأ جلده وبطنه وشعر رأسه ، وهو ينشد :
اللهم لا عيش الا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة
**
وكان يقول ايضا :
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
أثناء حفر الخندق كان تشكيك المنافقين في وعود وبشريات النبي ﷺ ، وهم يسخرون من كلامه بأنهم لا يجدون ما يأكلونه ولا يستطيع أحدهم قضاء حاجته والنبي ﷺ يحدثهم عن فتوحات قصور الشام وفارس واليمن !! ..

لكن النبي لم يعبه بكل تلك الضغوط في ظل هذه الأجواء الخطيرة والمحبطة التي وصفها الله وصفا بليغا فقال تعالى : ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ) (10).. انظر لهذا الوصف الدقيق والتصوير الفني لمشهد يحكي درجة الرعب والخوف والشدة بين المسلمين وهم يواجهون خطرا ماحقا عدو لا قبل لهم به ، لدرجة أن بعضهم شكك في نصر الله وظن بالله الظنون .
نعم في ظل هذه الظروف كان النبي ﷺ يخطط ويستخدم أدوات الحرب النفسية وهو يقول للصحابي ‘نعيم بن مسعود” – وهو حديث عهد بالإسلام وقومه لا يعلمون بإسلامه – اذهب فخذل عنا إن استطعت ، ويبعثه كرجل مخابرات من الطراز الأول يعمل في بيئة الدول الإقليمية المجاورة وهي ( قطفان ، قريش ، وبني قريظة ) ويوقع بينهم الشك والخلاف والفتنة ..
لم يستسلم الرسول ﷺ بل كان يرسل أفراد الاستخبارات لجمع اخبار ومعلومات العدو من داخل عمقهم الاستراتيجي ..

ومع طول أمد الحرب والانتظار وصبر المسلمين في ظل الجوع والخوف والحصار ، يرسل الله جنوده التي لا يعلمها الا هو فكانت الرياح الباردة العاتية العاصفة، تنتزع خيام العدو وتملأ عيونهم بالتراب وتطفئ نيرانهم وتغض مضجعهم وراحتهم ، حتى يملوا ويقرروا الانسحاب تاركين الهدف الذي جاءوا من أجله ويتحقق النصر للمسلمين ..
الخلاصة والعبرة :
١ ) كانت هذه الغزوة ابتلاء عظيم محص المسلمين واختبر صبرهم وكشف المنافقين بينهم ..
٢ ) استفاد النبي ﷺ من استخباراته القوية في جمع معلومات استباقية عن تخطيط يه//ود بنو النضير وقريش لمهاجمة المدينة وحصارها .
٣ ) استفاد من تقنيات وتجديدات غير تقليدية في العمل العسكري لم يكن يعرفها قبائل العرب وهي حفر الخندق في موقع استراتيجي من المدينة منع العدو من دخولها .
٤ ) في غزوة الخندق أنشأ المسلمون أول مستشفى حربي، فقد ضرب الرسولُ ﷺ خيمةً في مسجده، وأمر أن تكون رفيدةٌ الأسلميةُ الأنصاريةُ مسؤولة ذلك المستشفى، فكانت أولَ ممرضة عسكرية في الإسلام.

٥ ) كان التوجيه المعنوي حاضرا يخفف عن المسلمين ويشجعهم ويحمسهم من خلال عمل رسول الله مع جنوده بنفسه في الحفر وحمل التراب ، وانشاده الاهازيج الجه//ادية .
٦ ) اخيرا وليس آخرا ..

ثق أنه من قلب الابتلاء والمعاناة لا يتحقق النصر فحسب؛ بل يأتي الفرج والبشريات والفتوحات.
علينا أن نتأسى برسول الله وتتفاؤل بأن القادم سيكون أفضل بإذن الله ؛ فقط علينا أن نأخذ بالأسباب وعلى رأسها الثقة بالله والدعاء والعمل بالخطط وتكتيكات الحرب وأدوات القتال ، والعمل على إبطال تأثير قوة العدو .

د. عبد المحمود النور