رأي ومقالات

المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (24) واشنطن (1)

السفير عبد الله الأزرق يكتب:
المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (24)
واشنطن (1)
الذين يعرفون سياسة أميركا الخارجية يدركون أن أميركا في هذا الصدد ليست جسماً واحداً صلباً؛ وإنما هي عدة أجسام تتحد حيناً وتفترق أحياناً.. وقد يكون لكل جسم منها موقف ورأي يختلف عن الأطراف الأخرى في موضوع بعينه من موضوعات العلاقات الخارجية.
تجد البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي التابع له؛ وهناك وزارة الخارجية ووزارة الدفاع (البنتاجون) والأجهزة الاستخباراتية التابعة لها، ووكالة الاستخبارات المركزية CIA.
وهناك الأجسام غير المنتخبة وهي المنظمات غير الحكومية NGOs، التي تعاظم نفوذها وتأثيرها على السياستين الداخلية والخارجية منذ أواخر السبعينات؛ وهناك جماعات الضغط Lobbies.
ومما يجدر ذكره أن الرئيس الأميركي الأسبق روزڤلت حذر الأمريكيين في خطاب وداعه، من خشيته من طغيان منظمات غير منتخبة وتحكّمها في سياسات الدولة ومصائرهم.. وهذا ما وقع بعد حوالي أربعة عقود من حكمه.
تعود جذور الاهتمام الأمريكي بالسودان إلى الخمسينيات؛ وذلك في إطار بحث أميركا عن النفوذ عالمياً إبّان الحرب الباردة؛ وحينها عرضت دعماً للسودان عبر المعونة الأمريكية USAID.
ثم عبر عمليات الإغاثة حين ضرب الجفاف غرب السودان. وقبل ذلك خلال عملية نقل يهود الفلاشا عبر السودان إلى إسرائيل في عهد المرحوم نميري.
وفي عهد نميري بلغت العلاقة بين واشنطن والخرطوم أوج ازدهارها، وكان ذهابي شخصياً لأميركا في ذلك العهد من خلال منحة من الحكومة الأمريكية لوزارة الطاقة والتعدين حيث كنت موظفاً فيها.
وكانت شركة شيفرون تنقب عن البترول في السودان.
وكان البترول أحد جوانب اهتمام أميركا بالسودان، بالإضافة للاهتمام بالجوانب الاستخباراتية..
وفي ذلك العهد بلغ عدد الدبلوماسيين، والعاملين تحت الغطاء الدبلوماسي في السفارة الأمريكية 300 أميركي؛ كما بلغت المعونة 350 مليون دولار.
ويجب التنبيه هنا أن ما يصل حقيقة من هذا المبلغ للحكومة السودانية يصل في حده الأقصى 20% منه فقط.
وقس على ذلك كل ميزانيات المعونة للمشروعات كافة.
وأذكر في هذا الصدد، أن المعونة تبرعت بمبلغ 5 مليون دولار لإدارتنا في وزارة الطاقة لتنفيذ “برنامج تقييم الطاقة القومي National Energy Assessment Programmer”؛ لكن ما استلمته الإدارة نقداً كان 250 ألف دولار. أما بقية المبلغ فقد أنفقته المعونة على تغطية نفقات خبراء أمريكان وورش عمل ومدربين أمريكان، وكل الاحتياجات اللوجستية التي يتطلبها البرنامج والتي كانت تصلنا من أميركا خصماً على ميزانية البرنامج. وكان مدير إدارتنا بالطاقة رجلاً عالي التأهيل العِلْمي وإدارياً فَذْاً هو المرحوم دكتور عبد الرحمن شُلّي.
وعبر حوالي عقدين، أسهمت التغطيات الإعلامية ونشاط المنظمات الإغاثية الأمريكية لمجريات حرب الجنوب وتداعياتها، في إيجاد أرضية سياسية محلية للسودان في أميركا، فأصبح محط اهتمام الساسة والإدارات الأمريكية.
وتدريجياً، تكوّن ما يشبه التحالف بين المنظمات إزاء الشأن السوداني؛ وهو حلف يضم منظمات حقوق الإنسان، واليمين المسيحي، والأمريكان السود، والناشطين الليبراليين، ومنظمات اللوبي اليهودي.
وأمام التغطيات الإعلامية ونشاط المنظمات الأمريكية في الجنوب؛ وتعاظم دعايتها لحشد الدعم المادي والسياسي وتعاظم ضغوطها؛ لم تجد الإدارات الأمريكية بُدّاً من الاهتمام بمجريات الأوضاع بالسودان وخاصة في جنوبه.
وبتأثير الاعلام والمنظمات أخذ الساسة، بما في ذلك الرؤساء، يهتمون ويسايرون التوجه الذي خلقته؛ ولا يملكون سوى أن يستجيبوا، بعد أن “وطّنَتْ” تلك الجهات الشأن السودان في الساحة الأمريكية. والساسة الأمريكان يهمهم الرأي العام الذي تخلقه أي جهة، خاصةً إذا كان له تأثير على عملية إعادة الانتخاب ‏Re-election.
ومن بين الأجسام المهمة في خلق مواقف أميركا خارجياً ينبغي الإشارة إلى أن مجلس الأمن القومي والذي يأخذ في اعتباره دائماً أثر ما يُوصي به من سياسات مصلحة الرئيس، وأصداء ما يتبناه على صورة الرئيس داخلياً وتأثيره على إعادة انتخابه؛ وذلك في كل القضايا الخارجية التي أصبحت لها أصداء في الساحة السياسية الداخلية في أميركا.
ويعود سبب اهتمام مجلس الأمن القومي بأمر الرئيس إلى أن الرئيس هو الذي يعيّن مسؤوله الأول؛ وليس للكنجرس سلطان على المجلس. ولهذا يزاوج مجلس الأمن القومي في ما يقترحه من سياسات بين عاملي السياسة الخارجية والداخلية.
فمثلاً، إذا كان لليمين المسيحي رأي واضح في شأن خارجي، فلابد للمجلس من أخذ ذلك في الاعتبار حتى لا يفقد الرئيس أصوات الناخبين من اليمين المسيحي!!!
وهذا يختلف عن مواقف وزارة الخارجية التي تبني قراراتها على الاعتبارات المهنية غالباً؛ وتأخذ في الاعتبار رأي مجلسي الشيوخ والنوّاب اللذين يساهمان جزئياً في رسم السياسة الخارجية، ويجيزان ميزانية وزارة الخارجية في جزئها الأهم.
للاعتبارات التي ذكرنا قد تختلف السياسة التي يتبناها المجلس عن تلك التي توصي بها الخارجية؛ وغالباً ما ترجح كفة المجلس لقربه من الرئيس.
وحين نريد أن نضرب مثلاً على هيمنة المجلس على بعض القضايا، تبرز مسألة نقل السفارة الأمريكية من الخرطوم إلى نيروبي.
فقد قررت الإدارة الأمريكية في عام 1995 نقل السفارة إلى نيروبي بحجة أن السودان دولة ترعى الإرهاب. وكان ذلك القرار يناقض وجهة نظر الخارجية الأمريكية؛ بل ورأي السفير الأميركي في الخرطوم، الذي كان يمارس رياضة الجري آمناً كل يوم في شارع النيل بالخرطوم. ورغم ذلك نُقلت السفارة لنيروبي.
وكانت نيروبي وقتها مدينة غير آمِنَة تماماً. وكان السفير الأميركي يشتكي من ذلك، وأسر لمن أعرف قائلاً: We have been robbed twice.
وكذلك كان الدبلوماسيون يشتكون من حالة الانفلات الأمني التي واجهوها في نيروبي.
فلما قررت وزارة الخارجية إعادة السفير للخرطوم عام 1997، فرض عليها مجلس الأمن القومي التراجع عن قرارها بعد 24 ساعة. وكانت حجة المجلس أن إعادة السفير ستُجَمّل صورة نظام وضعته في قائمة الدول الراعية للإرهاب (1993) وهذا سيُحسَب على الرئيس!!!
وكانت واشنطن وضعت السودان في تلك القائمة عام 1993 نظراً لإقامة أبي عبد الله أسامة بن لادن بالسودان. ولم تنفع حجج الحكومة أنها لن تسمح له بعمل مناهض لأي دولة، وأنه يقيم كمستثمر فقط، وأنه من الأفضل للجميع أن تبقيه قيد المراقبة.
ولما لم تقبل واشنطن شيئاً من تلك الحجج غادر لأفغانستان عام 1996.
ومن أفغانستان خطط وموّل تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام في 1998.
ثم دبر تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001؛ تنفيذاً لخطته في استهداف ما يسميه “العدو البعيد” Far Enemy.
وللحقيقة كانت علاقة أميركا بحكومة الصادق المهدي رحمه الله سيئة أيضاً.
فقد خفضت المعونة من 350 مليون دولار كانت تعطيها لنميري إلى 5 مليون دولار في 1989 وهي آخر سنة لحكومة الصادق.
وكانت أميركا تَنْقِمُ على الصادق المهدي أنه:
– قوّي علاقته بإيران.
– دخل في حلف عدن المكون من اليمن الجنوبي وليبيا وإثيوبيا، وثلاثتها موالية للاتحاد السوفيتي.
– لم يلغِ قوانين الشريعة الإسلامية ( رغم أنه سبق أن قال إنها لا تساوي ثمن الحبر الذي كُتِبَت به )
– لم يسدد أقساط ديون مؤسسات بريتن وودز.
– لم يصل لسلام مع قرنق.
وكانت أميركا ترى أن المهدي مراوغ؛ حتى أن سفيراً أمريكياً كان بالخرطوم قال عنه: إنه أكثر شخص متردد التقيته في حياتي
‏- “ The most hesitant person I have ever met “.
الأسوأ أن أميركا فرضت على المهدي القبول “بعملية شريان الحياة” التي قوّت حركة التمرد في الجنوب.

السفير عبد الله الأزرق