🔴 كيتونا-مروي وبالعكس مفتاح النصر على الطاولة
لم يكن القائد الثاني لقوات الدعم السريع (المتمردة لاحقاً) عبد الرحيم دقلو يهذي يوم ١٤ مارس/آذار ٢٠٢١م حين خاطب جمعاً كبيراً من حلفائه الجدد من قادة وجنود القوات المتمردة سابقاً في إقليم دارفور والتي عادت إلى الخرطوم وفق اتفاق تحالف مصنوع على عجل كاتفاق سلام قائلاً “الحركات المسلحة تخش الخرطوم وتمشي الغرب وتمشي الشرق وتمشي مروي.. لو على أنا، حتمشي أكتر حتة مؤهلة.. مستشفى ومدارس ومطار.. عشان نكرم الناس ديل، يكونوا في مروي”.
كان هذا قبل عامين وأسبوعين من الحرب التي كان ينبغي أن تبدأ من مروي لولا أن تصادف وجود القوات المصرية فيها فأفشلت الخطة التي وضعت قبل أعوام، وأبلغنا بخبرها دقلو الذي ربما كان يريد قياس رد فعل الرأي العام المحلي إذا قرر إرسال قواته إلى هناك، مثلما ظل يرسلها إلى كل أقاليم السودان تحت سمع وبصر القائد العام للجيش، دون أن يلاقي اعتراضاً من أي نوع.
في الأسبوع الأول من أبريل ٢٠١٩م أرسل الدعم السريع جنوده وآلياته العسكرية نحو مدينة مروي، لتحقيق الهدف القديم وهو ما فات – دون مسئولية بطبيعة الحال- على الكثير من الصحفيين والمراقبين المدنيين الهدف من تلك التحركات خصوصاً وأنهم لم يكونوا على اطلاع بما ظل يدور في لقاءات العسكريين من طرف القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، ومساعدي قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي).
إن خطة السيطرة على مطار مروي والانطلاق منه نحو العاصمة، خطة مكررة ومنقولة كما هي وتم تطبيقها قبل ربع قرن في جمهورية الكونغو الديمقراطية، المجاورة سابقاً للسودان قبل استقلال الجنوب.
ماذا درس كبار الجنرالات في الكليات العسكرية وفي الدورات التي دفع الشعب السوداني الفقير فيها مئات الملايين من الدولارات؟ وهل يتابع هؤلاء الجنرالات التطورات في الشئون العسكرية مثلما يتابع الأطباء الاختراعات الحديثة، والأدباء النظريات الفنية والنقدية الجديدة، ومهندسو الإنشاءات المنجزات اللاحقة لسنوات دراستهم في الجامعة؟ من الواضح أن الجنرالات الذين يحكمون السودان أغلقوا أسماعهم وأبصارهم عن تعلم الجديد وربما اعتقدوا أن العسكرية بعد التخرج هي قنص وطوابير فقط لا غير؟
***
في ١٦ مايو ١٩٩٧م سقط نظام الرئيس موبوتو سيسي سيكو وفر بمليارات الدولارات إلى المنفى في المغرب فيما أعلن المتمرد المخضرم لوران كابيلا نفسه رئيساً في اليوم التالي قبل أن يتوجه إلى العاصمة كنشاسا. كان مساعده المقرب في حملاته العسكرية هو الجنرال جيمس كاباريب الذي تولى منصب رئيس هيئة الأركان فور تشكيل الحكومة وظل العسكري الأول في النظام الجديد (تماماً مثل حميدتي في السودان) قبل أن يقرر مثل حميدتي أيضاً الانقلاب على حليفه الرئيس بشكل مشابه أيضاً.
كان كاباريب -بطبيعة الحال- يسيطر على غالبية المواقع والمنشآت بحكم مسئولية الجيش عنها وحين هلت ساعة الصفر قرر تغيير ولائه فقام بعملية تدرس الآن في اغلب الكليات الحربية حول العالم الآن باسم (عملية كيتونا) حيث سيطرت قواته على طائرة مدنية نيجيرية في مطار مدينة غوما الشهيرة في أقصى الشرق من البلاد على الحدود مع رواندا ثم استخدمها للقيام بعمليات نقل هائلة للجنود إلى أقصى الغرب حيث مدينة كيتونا المجاورة للعاصمة كنشاسا.
لا يخلو كتاب أي عسكري مجيد لمهنته حول العالم من تفاصيل عملية كيتونا التي عرفت بأنها الحرب العالمية الأفريقية التي شاركت فيها بدرجات متفاوتة تسع دول أفريقية ونجا منها الثعلب المخضرم كابيلا باستخدام الدبلوماسية والمباغتة.
يظل جيمس كاباريب أحد أهم الشخصيات العسكرية والدبلوماسية في القارة الأفريقية حيث ولد وتلقى تعليمه في يوغندا حتى تخرج في جامعة ماكريري المرموقة قبل أن ينضم للجيش اليوغندي ثم بعدها لقوات الثوار الروانديين بقيادة الرئيس الحالي بوول كاغامي، ثم بعدها للثوار الكونغوليين بزعامة لوران كابيلا.
بعد فشل عملية كيتونا عاد كاباريب إلى رواندا حيث خدم في الجيش الرواندي ثم صار وزيراً للدفاع لثمانية سنوات قبل تقاعده من الخدمة العسكرية وهو يشغل حالياً منصب وزير الدولة للخارجية والتعاون الإقليمي.
وإطناباً نقول إن الجنرال كاباريب زار السودان في أكتوبر عام ٢٠٠٩م وأجرى محادثات في دارفور بشأن الأزمة هناك.
***
عقب سيطرة كابيلا على السلطة في الكونغو قام بمجموعة من المناورات السياسية التي شعر كاباريب ومجموعة أخرى من كبار الضباط والجنود بأنها تقفز على مساهماتهم في تمكينه من السلطة. في المرة الأولى قام كاباريب بقيادة رتل ضخم من السيارات العسكرية إلى القصر الرئاسي في كنشاسا لكن كابيلا أفلت حيث كان في زيارة غير معلنة إلى كوبا، وكان ذلك خللاً استخبارياً كبيراً كشف أفكار كاباريب وأفشل المهمة على نحو مختلف قليلاً من عملية السيطرة على الحكم في السودان بعد تطويق مقر القائد العام للجيش في السودان وسيطرة قوات الدعم السريع المتمردة على القصر الرئاسي وأغلب المنشآت في العاصمة الخرطوم.
غضب كابيلا وأدرك كاباريب أن المعركة مع رئيسه أصبحت ضرورية وعاجلة فتحصن بين عدد كبير من قواته الأكثر ولاء وبدأ بخطوات متسارعة لكنها شديدة البراعة والتعقيد في تهيئة المناخ المواتي للانقلاب على السلطة وتنفيذ مخطط عملية كيتونا.
شملت هذه الخطوات التواصل مع عدد من دول الجوار المؤيدة له وضمان الحصول على مساندتها العسكرية والسياسية (يوغندا ورواندا) ومحاولة تحييد دول أخرى، واستقطاب المئات من كبار ضباط الجيش والنشطاء السياسيين والدبلوماسيين الأجانب والإعلاميين وزعماء القبائل.. ما أشبه الليلة بالبارحة، وما اشبه السودان بالكونغ، وإن فشل حميدتي أن يكون شبيهاً بالجنرال كاباريب.
لم يتقاعس كابيلا، بل أصدر أوامره فوراً بإقالة كاباريب من منصبه وأعاد تنظيم قواته العسكرية لكنه لم يتحسب بالطبع لقيام عدوه باستخدام طائرة مدنية لعمليات نقل الجنود إلى مسافة قريبة من العاصمة.
اعتمد كابيلا على ثلاثة وسائل لمواجهة التمرد الشرس عليه:
– ترتيبات عسكرية داخلية داخل الجيش وتنشيط عمليات الاستنفار والتجنيد والتسليح،
– حملة دبلوماسية شرسة قام خلالها بانتهاك الحظر الذي كانت تفرضه الأمم على ليبيا عدة مرات وزار الزعيم الليبي حينها العقيد معمر القذافي، ثم انهمك في محادثات عملية منتجة مع زيمبابوي وأنجولا وناميبيا وزامبيا،
– حملة إعلامية قوية تشير إلى أن بلاده تواجه غزواً يوغندياً رواندياً مما وحد الجبهة الداخلية لديه خصوصاً في العاصمة كنشاسا وفي مناطق نفوذه التاريخية.
أسفرت تلك الحملات في التوصل على اتفاقيات عاجلة مع تلك الدول لمساعدته عسكرياً حيث شاركت القوات الجوية الزيمبابوية بشراسة في المعارك فيما كانت المفاجأة بالنسبة لكاباريب هي دخول القوات الأنجولية المتمرسة في القتال ضد حركة يونيتا المدعومة من الولايات المتحدة والغرب لما يزيد عن ال٢٠ عاماً. كان كاباريب قد ضمن مقدماً من خلال محادثات سرية معقدة مع قادة الجيش الأنجولي بأنهم لن يتدخلوا إذا قام بشن عملية خاطفة للسيطرة على السلطة في بلاده -الكونغو حينها- لكن قادة الجيش الأنجولي احتفظوا باتفاقهم معه سراً عن الرئيس الأنجولي اليساري التاريخي خوسيه إدواردو دوس سانتوس الذي ما عن رأي عرش كابيلا يتهاوى حتى استشعر حمية الرابطة الماركسية وأصدر أوامره لجيشه بالتدخل، فشكل مفاجأة ساهمت في هزيمة مخطط عملية كيتونا.
أبرم كابيلا اتفاقيات مربحة مع حكومتي زيمبابوي وأنجولا للتنقيب عن المعادن مقابل مساهمتهما الكبيرة في هزيمة المخطط المعادي. (سبق أن اقترحت استخدام ذلك القالب الناجح بواسطة الحكومة السودانية لهزيمة تمرد قوات الدعم السريع – راجع مقالي التكرار لا يعلم الجنرال).
عملية كيتونا لمن يحبون قراءة تاريخ الحروب وصراع السلطة في القارة الأفريقية، فيها كل شيء وربما تصلح للحكي على طريقة ألف ليلة وليلة حيث شملت أساليب غاية في التعقيد والمهارات العسكرية والغرابة من كل الأطراف، ومن بين ذلك تنكر مجموعات كبيرة من قوات كاباريب المتمردة في زي القوات الكونغولية الرسمية، ثم ظهورها كقوات منسحبة قبل أن تعيد ترتيب طوابيرها والهجوم على العاصمة كينشاسا التي كان الجيش فيها في حالة متردية من التشتت والانهزام وضعف الروح المعنوية.
ومن الحكايات الغرائبية الصراع بين القوات الزيمبابوية وقوات التمرد على مطار إندجيلي (N’djili) أحد مطاري العاصمة كنشاسا حتى اضطر سلاح الجو الزيمبابوي إلى تحييد المطار بكامله والقيام بقصف ذات المدرجات التي انطلقت منها بعد ضمان الطيران وهي مغامرة تم حسابها بدقة حيث سيتوجب على هذه الطائرات الهبوط في مطار آخر.
***
منذ اليوم الأول لتوليه السلطة كشف الفريق أول عبد الفتاح البرهان عن شخصية ضعيفة لا مبالية بالداخل ومطيعة للخارج، وقد انعكست هذه الطبيعة على معاونيه الكبار ومتملقيه الصغار الذين انقطع طمع السلة فيهم بسقوط حكومة الرئيس السابق عمر البشير.
لسنا هنا بصدد تحليلاً لأخطاء والمؤامرات التي قادت إلى الوضع الكارثي وإن بدا الأمر مستحيلاً، ولكننا بصدد النظر في عجز الوسائل الحالية للدفاع عن البلاد وشعبها ووحدة أراضيها وهي وسائل فاشلة تقوم بها مجموعة خليط من الخونة، والمرتشين، والجبناء، والأغبياء.
أول الأخطاء هي عدم صياغة خطاب إعلامي يساهم في المعركة جنباً إلى جنب مع المعركة العسكرية وفيما اعتمد الفريق البرهان ومساعدوه على ممارسين ضعاف نظرياً وفاشلين مهنياً في صياغة وتنفيذ الإستراتيجية الإعلامية، كانت النتيجة كارثية حيث اعتمدت على خطاب ضعيف يتحدث عن عرب الشتات والجنود الأجانب ويجعل المعركة معهم كأفراد في حين كان ينبغي نقل المعركة إلى مواجهة مع دولهم وتحميلها مسئولية ضبطهم.
الخطأ الثاني هو خطأ الدبلوماسية السياسية في عدم استغلال المعلومات الموثقة عن الدعم الأجنبي للتمرد وإبلاغ العالم بحقيقة الحرب التي تشنها دول محددة ضد السودان ووضع تلك الدول في مواجهة القانون الدولي والضمير الإنساني ونشطاء المواطنية العالمية إضافة إلى حلفاء البلاد العرب والأفارقة والمسلمين.
الخطأ الثالث هو اعتماد خطط عسكرية دفاعية عن المقرات التابعة للجيش وتخلي الدولة بالكامل عن مسئوليتها في حماية المواطنين مما ترتب عليه مأساة إنسانية فادحة ظل كبار جنرالات مجلس السيادة يتسلون بمشاهدتها في مكاتبهم الوثيرة في التلفزيونات وهم يبتسمون ويتضاحكون أمام كاميرات الهواتف النقالة.
لا يمكن رصد جميع الأخطاء هنا، لكن الأكثر فداحة في هذه الأخطاء أنها أخطاء ظاهرة قابلة للتصحيح يومياً ويكتب عنها الصحفيون الشرفاء والكتاب وقادة الرأي بشكل متصل دون أن يهتم قادة البلاد (الخمسة الكبار) بمخاطبتها أو رفضها مما يعزز فرضية التواطؤ مع العدو، أو بعبارة أخرى الخيانة العظمى، وهي فرضية لها عشرات الحيثيات والشواهد وقرائن الأحوال.
لمصلحة من يتم تقييد الاستنفار والتجنيد في بلد يوفر أهلها الفقراء الوقود البشري لحروب المنطقة كلها؟ منذ مشاركة الكتيبة السودانية في حرب المكسيك في ستينيات القرن الثامن عشر مروراً بحروب الجولة العثمانية والحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب العرب في فلسطين في الأعوام ١٩٤٨م، و١٩٥٩م، و١٩٧٣م، والحرب الأهلية اللبنانية في الثمانينيات، وحرب التحرير الإرترية، وحرب جبهة التقراي، وحرب اليمن، والحرب الأهلية الليبية، وحرب داعش في سوريا، والحروب الداخلية في تشاد وأفريقيا الوسطى والصومال، ظل الدم السوداني متوفراً للبيع الرخيص وعلينا كدولة وحكومات مواجهة ذلك وتجريمه وفرض العقاب بدلاً من انكار حقيقة وجود الشمس كلها.
هل رأيتم ضعف حجتنا في مواجهة ما نسميه في خطابنا الإعلامي الهش بعربان الشتات؟ هم يردون زيارات أفرادنا المتفلتين السابقة وعلينا إن أردنا ضبط المواجهة أن نعيد رسم المعركة على خطوط الاختلاف بين الدول والحكومات وليس بين الأفراد وشيوخ القبائل.
لمصلحة من يتم تقييد يد ذراعنا الدبلوماسي في السفارات وخصوصاً في بعثات السودان لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ولدى الدول المهمة؟
لمصلحة من يتم إخلاء اهم سفارة سودانية في العالم الغربي من السفراء وكبار الدبلوماسيين، وأعني سفارة السودان في بريطانيا التي يقوم برئاسة بعثة السودان فيها موظف مثابر في درجة سكرتير أول، وهي البعثة التي كان يعمل فيها عادة كبار الدبلوماسيين من ذوي الخبرة والدربة والتجربة؟
هل يتوقع السودانيون أن تستقبل وزارة الخارجية البريطانية موظفاً في درجة سكرتير أول -مهما بلغت درجة إخلاصه ووطنيته ومثابرته- للتشاور معه، أو حتى تلقي رسائله؟ إن المؤامرة الكبرى على السودان ليست في الحرب التي تشن عليه من الخارج، ولكنها في حقيقة الأمر في الحرب التي تشن عليها من الداخل؟ نذكر مثال سفارة السودان في بريطانيا كنموذج فقط لعملية توثيق أيدي بلادنا وراء ظهرها وتكميم أفواه جميع أدواتنا في الصراع الشريف بواسطة حكومتنا ومنع هذه الأيدي من الدفاع ومنع الأفواه من الصراخ.
لمصلحة من يتم التواطؤ مع المؤسسات الاقتصادية التابعة للتمرد ولعائلة دقلو بالامتناع عن تغيير العملة فيما كانت فترة ال٧ أشهر الحالية كافية لتغيير العملة مرتين، وتحويل الأوراق النقدية التي نهبت من المصارف والمؤسسات الحكومية والتجارية ودار سك العملة إلى أوراق عديمة القيمة وغير مبرئة للذمة.
هل الصورة قاتمة أم أن هناك ثمة أمل؟
***
الصورة قائمة والأمل وافر لكن المعركة ينبغي أن تبدأ من الداخل -مثلما كان الحال في الكونغو- حيث ينبغي إقالة الحكومة الحالية ووضع قادتها ومساعديهم أمام المساءلة الجنائية والقانونية، وتنصيب قيادة عسكرية جديدة وحكومة حرب محددة المهام تستطيع تحقيق الانتصار الحاسم على التمرد في أسابيع معدودة على ذات النحو الذي تحقق في دول أفريقية عديدة تشابه ظروفها ظروف السودان.
كان مفتاح كابيلا للانتصار على التمرد الخطير هو إقالة الجنرال القوي وتنصيب خلف له، ويقيني أن مفتاح بوابة النصر في السودان موضوع وحيداً على الطاولة وهو إقالة جنرال الهزيمة بدلاً عن البحث عن مفاتيح أخرى لن تقود إلا إلى المزيد من الهزائم.
الصور:
-خريطة توضح المسافة ما بين مدينة غوما وقاعدة كيتونا
– الرئيس الأنجولي السابق مع صديقه الكوماندانتاكاسترو
– قائد القوات الأنجولية مع إبن الرئيس كابيلا ، الرئيس لاحقاً
-الجنرال كاباريب كضابط كونغولي ومرة وهو يؤدي القسم وزيراً رواندياً
محمد عثمان إبراهيم