هناك دائمًا مجال للفرح..!
قبل حوالى سنة انتشر فيديو على اليوتيوب يصور عرسا جماعيا فى مدينة سان بطرسبرج الروسية لعشرين شابا وفتاة يحتفلون بزفافهم قبل ذهاب الرجال للحرب فى أوكرانيا، النساء ارتدين فساتينهن البيضاء فى حين كان العرسان بملابس عسكرية. وصاحب ذلك تعليق حول ارتفاع نسبة الزواج أيضا فى أوكرانيا خلال التوقيت ذاته، إذ سجلت السلطات فى كييف 9210 عقود قران خلال خمسة أشهر، أى ثمانية أضعاف المتزوجين فى نفس الفترة من العام السابق. جلست الفتيات على كراسى القاعة الفسيحة، وارتفعت موسيقى مارش الزواج لفيليكس ماندلسون الذى يعرفه الناس فى العالم العربى، غالبا دون الإلمام باسم مؤلفه وظروف كتابة المقطوعة الكلاسيكية، فقد ارتبط فى أذهان الكثيرين بأغنية ماجدة الرومى «طلى بالأبيض طلى يا زهرة نيسان».
هذا المارش الذى يرافق عادة مسيرة العرائس حول العالم، سواء عند دخولهن إلى مكان الاحتفال أو خروجهن منه هو جزء من عمل كامل للموسيقى الألمانى البارز، قدم فيه مسرحية شكسبير الكوميدية «حلم ليلة صيف» بشكل غنائى عام 1843. كتب المارش الفخيم للأوركسترا، وقد لاقى شهرة كبيرة بعد أن طلبت الملكة فيكتوريا استخدامه فى حفل زفاف ابنتها الأميرة فيكى على وريث عرش بروسيا فى يناير 1858، ومن هنا كان تقليد لعبه فى الأعراس. وساهم فى شعبيته كذلك كونه ضمن مقطوعات فيلم الفانتازيا الرومانسية «حلم ليلة صيف» الذى قام بإخراجه ماركس رينهارد ووليام ديتيرلى عام 1935.
شهد النصف الثانى من القرن التاسع عشر ميلاد مقطوعة أخرى ارتبطت ارتباطا وثيقا بالأعراس، وهى للمؤلف الموسيقى الألمانى ريتشارد فاجنر. أضاف هذا الأخير الكثير لفن الأوبرا وموسيقى الأوركسترا، فقد اعتنق أفكارا ثورية وكان معاديا للتيار المحافظ بشكل عام، ويعتبر رائد النزعة الرومانسية فى الموسيقى الألمانية. لحن أوبرا «لوهنجرين» ما بين 1845 و1848، وكان قد وصل إلى مرحلة مهمة من النضج السياسى والفنى، فحين عُرضت على المسرح لأول مرة فى فايمار بعدها بعامين كان مطاردا بعد انهيار الثورة، وانتهى به الحال فى زيورخ بسويسرا حيث مكث فى المنفى لمدة 12 عاما واتجه للكتابات النقدية أكثر من الموسيقى، ومن ثم جاءت سلسلة أعمال مثل «الفن والثورة» و«فن المستقبل» و«الأوبرا والدراما».
الشخصية الرئيسية لأوبرا «لوهنجرين» مأخوذة عن قصة ألمانية رومانسية من العصور الوسطى، وقد مزج الأحداث بأجزاء من أسطورة فارس البجعة وملاحم أخرى، ليروى وصول بطل غامض على متن قارب تقوده بجعة لحماية فتاة متهمة خطأ بارتكابها جريمة قتل. شرط الفارس الوحيد لإتمام مهمته ألا يسأله أحد عن اسمه حتى لا يفقد قواه السحرية، فالمرأة التى يقابلها يجب أن تؤمن به دون الكشف عن هويته وتحبه كما هو. فى هذا السياق، يظهر مارش الزواج الشهير لفاجنر الذى يُعزف فى المناسبات السعيدة بجميع بقاع الأرض، وذلك حين يتحرك الحبيبان أو بطلا الأوبرا نحو غرفة الزفاف أثناء الفصل الثالث.هاتان المقطوعتان لفاجنر وماندلسون صارتا محملتين بمعان رمزية عديدة مثل التلاقى والحب والرباط الأبدى والانتقال من حياة إلى أخرى. اختلط العملان بثقافات مختلفة فيوجد منهما توزيعات بنكهة موسيقى الروك والريجى إلى ما غير ذلك، كما يُعزفان بالتوازى مع الزفة الشرقية أو مع رقص الدبكة فى بعض البلدان، فالحب والاحتفاء به والرغبة فى بدايات جديدة هى مشاعر إنسانية لا تعرف جنسية أو حدودا. وهو ما رأيناه أخيرا فى غزة حين قرر شابان الاحتفال خلال الهدنة بزواجهما الذى كان مخططا له قبل الحرب، وذلك رغم تدمير البيت الذى جهزاه لشهور وقصف قاعة الأفراح التى كانت ستشهد زفافهما. احتفلا مع الكثير من النازحين، فى باحة إحدى مدارس الأونروا. وقف الجميع من حولهم وأعلى شرفات المبنى المزينة بأحبال الغسيل فى مشهد راقص لم نكن نتخيله قبل أيام. دق أحدهم الدف، ونقر آخر على طبلة الكشافة التى كانت موجودة غالبا داخل المدرسة. مظاهر بدائية للفرح سيقصها الحكاءون المجهولون للأجيال القادمة، سيصفون تلك الأم التى بللها المطر وجللها الصمت خلال أيام طويلة وكيف خرجت عن وقارها ورقصت لأول مرة منذ عهود. أغمضت عينيها فى محاولة لطرد الصور المزعجة من رأسها والتركيز على إيقاع الموسيقى.
لم يتم عزف مارش ماندلسون كما حدث فى روسيا خلال حفل الزفاف الجماعى أو كما يحدث أحيانا فى بعض قاعات الأفراح المنتشرة فى غزة والتى كان الجيش الإسرائيلى حريصا على تدميرها. هناك فوارق كثيرة تتعلق بالإمكانات والظروف، وتتعلق حتى بالفترة الزمنية التى كتب خلالها ماندلسون وفاجنر عمليهما، ففى النصف الثانى من القرن التاسع عشر كان قد بدأ بالفعل إنشاء أول مستعمرة يهودية فى فلسطين بدعم الثرى البريطانى اليهودى مونتيفيورى. وصل عدد المهاجرين إليها عام 1840 إلى عشرة آلاف يهودى، ثم 15 ألفا عام 1860، ثم 22 ألف يهودى عام 1881. بعدها توافدت عليها أفواج المهاجرين الروس عام 1882، رغم إصدار السلطان العثمانى قانونا بهدف الحد من الهجرة، حتى ارتفع العدد إلى 25 ألف يهودى عام 1903، وتغير مصير فلسطين وشعبها إلى الأبد.
داليا شمس – الشروق نيوز