رأي ومقالات

علي عسكوري: وقف الحرب

يقول بعض السذج من الناشطين الذين ما تزال ترهات اركان النقاش تسيطر على تفكيرهم، ان الحرب سببها ما يسمونه الفلول دون ان يقدموا للناس تعريفا لمصطلح (الفلول) وكيف تسببوا في الحرب! هذا تبسيط مخل و مستوى متقدم من السذاجة السياسية ينم عن جهل تام بحقيقة الصراع في السودان، ولكنه دأب الناشطين في التحليل الفطير والبناء عليه وهو الأمر الذى حصرهم في زاوية ضيقة تذدريهم نظرات الجميع.

الحرب في السودان لم تبدأ في ١٥ ابريل ٢٠٢٣، بل ظلت تدور منذ ١٩٥٥ واحداث توريت المعروفة. وما حدث في ١٥ ابريل هو فقط انتقالها لعاصمة البلاد..!

فالحرب في جنوب السودان (سابقا) او دارفور، النيل الازرق، جنوب كردفان او الخرطوم هى حرب اهلية بنفس القدر، اللهم الا إن كان الشخص يري ان تلك المناطق ليست جزءا من السودان وان الحرب فيها لا تعنيه!

ما حدث في ١٥ ابريل هو نقل للحرب لعاصمة البلاد وهو تطور خطير جدا، والراجح عندى انه كان حتميا.

لقد ظل التراخي في التعامل مع كل ما يتمرد على الدولة صفة سيئة لازمت الدولة طويلا، حتى اصبح كل ابناء اسرة او فخذ او (خشم بيت) يتمردون لوحدهم طمعا في المغانم.
ما يحيرني لماذا تكون هنالك حوالى ٨٠ حركة مسلحة في دارفور من اجل قضية واحدة! بل لماذا تكون هنالك حركتان من قبيلة واحدة كل تدعي نصيبا في السلطة لوحدها..!

المنهج الذى حاولت ان تعالج الدولة به قضية التمرد اغرى آخرين بالتمرد، ويجب ان يتوقف، ان كنا جادين في ان الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة لبلوغ السلطة.

لاشك ان الحرب ستكشف جماهيرية كل من تسلق ظهر الشعب ببندقيته، وان رأيى الثابت يجب الا تكون البندقية سبيلا لنيل المواقع القيادية في الدولة. هذا امر يجب ان نتفق عليه جميعا، في غير ذلك لن ينضب مصدر التمرد فكل باحث عن السلطة سيتمرد ليبلغها. ولذلك، يجب فقط معالجة اسباب التمرد دون مكافأة المتمردين إن كنا جادين في وقف جحافل الحركات المتمردة.

للحرب في السودان جذور عميقة سببها الرئيسي هو فشل الساسة في العثور على صيغة لحكم البلاد وللتعايش. تأخذ ازمة الحكم هذه تمظهرات مختلفة منها الحرب التى تتنقل حسب الظروف والمعطيات وقدرات الفاعلين.

في كل هذه الحروب يجد الجيش نفسه مجبرا للدفاع عن البلاد وبقاء الدولة، فالجيش ليس سببا في الحرب وانما هو ضحية لفشل الساسة في العثور على صيغة للتعايش بين القوى السياسية وبين المكونات الاجتماعية.

رغم قساواة هذه الحروب الممتدة التى اهلكت االحرث والنسل، لازال اغلب الساسه في غيهم يعمهون. فاليسار متمسكا بما اسماه ميثاق التغيير الجذري والاسلاميون متمسكون بما يسمونه الدولة الاسلامية، و حزب البعث يري ان القضية هى عروبة السودان، اما الحزبين التقليدين الامة والاتحادى لا يزالان يقفان في المنتصف عاجزين تماما عن تقديم طرح متماسك لرؤية متكاملة توفر استقرارا للبلاد. متنازعين بين اليسار واليمين. فإن مال حزب الامة يمينا، مال الاتحادى يسارا والعكس صحيح. وفوق كل ذلك ضربت هذه القوى جميعا جرثومة الانقسامات التى لم ينج منها حزب، حتى اصبحت تفرعات الاحزاب التى تحمل ذات الاسم بالعشرات، ومثل تلك الانقسامات حدثت ايضا في حركات دارفور التى اصبحت تفرخ حركات اكثر من ذخيرتها.

واقع التشرزم الحالي يمثل وصفة ممتازة للحرب، و كان طبيعيا ان تقع، بل سيكون من المستغرب ان لم تقع!

وقف الحروب ليس في منبر جدة او اى مبادرة خارجية الخ… انما في البحث عن صيغة للتعايش بين المكونات السياسية والمجتمعية المختلفة.

فالتفكير الآحادى عن ” تغيير جذرى” لن يحل المشكلة، وكذلك التمسك ” بدولة دينية” لن يحل المشكلة، ومثلهم التمترس في ” أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” لن يحل المشكلة، وكذلك لن يحل المشكلة الخطاب البائس لانصار السنة والجماعات الدينية الاكثر تطرفا منهم.
ان المدخل الصحيح لوقف الحرب هو ان تترسخ القناعة عند كل هؤلاء ان السودان ليس ملكا لاى فرقة منهم لوحدها، وان ليس بوسع اى مجموعة فرض تصوراتها ورؤاها على الاخرين وان تقديم التنازلات المؤلمة لافساح الطريق للاستقرار والتعايش هو واجب الجميع، فبدون ذلك ستذهب بلادنا في طريق التفكك الحالى حتى تتلاشي.

هذه التنازلات التى نتحدث عنها تشمل حتى اتفاقية السلام الحالية (سلام جوبا) التى لم تحقق سلاما واصبح تنفيذها خاصة في دارفور في عداد المستحيل، بل واقع الحال والتطورات الاخيرة في دارفور حولتها رغم ارادة الجميع لتصبح (اتفاقية سلام الفاشر) وهو بالطبع امر لم يسع له موقعوها وجاء بالكامل عكس مقاصد الاتفاقية، ولكنه يبقي هو واقع الحال! ولا ادري ما هو السبب في تمسك اطراف الاتفاق به والكل يعلم ان تنفيذه في المدى المنظور مستحيل..!
أكدت هذه الحرب ان الجميع اخطأ في حق نفسه وحق شعبه وبلاده، وليس هنالك جهة واحدة يمكن تحميلها مسؤولية الحروب فى بلادنا، فتاريخنا منذ ١٩٥٦ ملىء بالدماء والصراعات، ولذلك يجب ان تكون البداية الصحيحة في فتح صفحة جديدة بيضاء تتعاهد فيها القوى السياسية على تقديم التنازلات وعلى اللعب النظيف، وعلى الاعتراف بأن للآخرين حقوقا مثلهم في بلادهم وان الغائهم ليس ممكنا، وان محاولة فرض برنامج احآدى ليس ممكنا انما هو وصفة جاهزة للحرب.

في الجانب الآخر فان خروج الجيش من السياسة لا يتم ولن يتم بالصورة الفجة التى يتحدث الناشطون عنها ، بل ان الجيش سيخرج من السياسة تلقائيا متى ما اتفقت القوى السياسية وتوصلت الى صيغة لنظام الحكم تلتزم بها جميعا وتحقق استقرارا سياسيا فى البلاد. اما في ظل تشرزمها بهذه الصورة فسيجد الجيش نفسه مضطرا دائما لحماية الدولة من الانهيار.
يجب ان تكون هذه الحروب خاصة الحرب الحالية قد اعادت للقوى السياسية جميعا وعيها بأن طرحها السابق القائم على الغاء الآخر هو ما اوصلنا الى ما نحن فيه من تشرد داخلي ولجوء للدول الاخري، وان بلادنا (الحدادى مدادي) لم تسعنا نتيجة لتمترس كل حزب في رؤاوه دون اعتبار لحقوق الاخرين.

لم يعد هنالك مخرج آخر لبلادنا سوى ان ترمي الاحزاب والحركات المسلحة اطروحاتها القديمة بعيدا وتغير طريقة تفكيرها بالبحث عن ما يجمعها وتبني عليه وتترك ما يفرقها. لقد كلفتنا الافكار والمشروعات السياسية السابقة البائسة دماء كثيرة وتشردا ولجوء، وقد حان اوان تركها نهائيا والبحث عن ما يجمعنا ويحقق الاستقرار في بلادنا. وعلى القوي السياسية قبل ان تطرح افكارها ان تسأل نفسها سؤالا بسيطا وذلك: ان كان ما تود ان تطرحه يفرق الناس ام يوحدهم؟ فأغلب القوى السياسية يطرح افكارا احادية لا مكان فيها للاخر تمثل (ريسبي) او وصفة جاهزة للفرقة.

ان كانت القوى السياسية حريصة على بقاء البلاد عليها الاستعداد لتقديم تنازلات مؤلمة جدا هاديها في ذلك الحفاظ على بقاء الدولة، في غير ذلك ستذهب ريحنا. فإن سقطت الدولة لن تجد هذه القوى حيزا جغرافيا للتتصارع فوقه وبالطبع ستتبخر اتفاقية السلام، فانهيار الدولة وتفككها يعني ذهاب كل شيء!

لكل ذلك فوقف الحرب هو واجب القوى السياسية وليس الجيش، فالجيش بوسعه وقف القتال ولكن ليس بإمكانه وقف الحروب لأن اسبابها قائمة وموجودة في صراعات القوى السياسية وفشلها في الاتفاق على شيء.

علي عسكوري
٧ ديسمبر ٢٠٢٣