رأي ومقالات

نافع: صدمات الحرب.. الاتجاهات المتباينة لاقتصادات الشرق الأوسط فى 2024

فى ظل ضبابية المشهد الاقتصادى العالمى، لاتزال منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تواجه تحديات اقتصادية واسعة النطاق، بما فى ذلك التباطؤ العالمى، وارتفاع أسعار الفائدة، وتشديد الأوضاع المالية والنقدية، فضلًا عن التوترات الإقليمية والدولية التى تُلقى بظلال كثيفة على سلاسل التوريد وحركة التجارة والسياحة وتدفقات رؤوس الأموال. وفى هذا الإطار، يتناول هذا التحليل الاتجاهات المتوقعة لاقتصادات الشرق الأوسط فى عام 2024.

تباطؤ إقليمى:

توقع صندوق النقد الدولى، عشية نشوب الحرب فى غزة، أن يتباطأ النمو الاقتصادى بشكل ملحوظ فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنهاية عام 2023 إلى 2%، نزولًا من 5.6% فى العام السابق، وسط انخفاض إنتاج النفط فى الدول المُصدرة له، وتشديد السياسات النقدية والمالية فى الأسواق الناشئة والاقتصادات متوسطة الدخل، والظروف الاقتصادية الداخلية السائدة فى عدد من دول المنطقة.

كما توقع الصندوق أن تتحسن الظروف الاقتصادية نسبيًا فى عام 2024، مع وصول النمو فى المنطقة إلى 3.4%، مع تراجع الانكماش فى السودان، وتبدد العوامل الأخرى التى تضعف النمو، بما فى ذلك التخفيضات المؤقتة فى إنتاج النفط. ومع ذلك، لاتزال أزمة الدين العام قائمة، ومن المُتوقع أن يظل النمو متوسط الأجل ضعيفًا. وعلى الرغم من تراجع التضخم على نطاق واسع، فإنه لايزال مرتفعًا فى بعض الاقتصادات، إذ يؤدى ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى تفاقم فرص انعدام الأمن الغذائى.

ويعود التباطؤ الإقليمى بشكل رئيسى إلى تراجع الطفرة فى الدول المُصدرة للنفط، إذ إنه من المُتوقع أن يتباطأ النمو فيها إلى 3.3% و2.3% فى عامى 2023 و2024 على التوالى، انخفاضًا من 6.1% فى عام 2022، مع مراعاة أثر الأساس المنخفض لهذا العام، إذ تتم مقارنته بعام 2021 الذى شهد انكماشًا كبيرًا على خلفية إغلاقات جائحة «كورونا». ويعكس التعديل النزولى لآفاق النمو فى الدول ذات الفائض النفطى، التباطؤ المُتوقع فى اقتصادات الشركاء التجاريين، والتخفيضات الجديدة فى إنتاج النفط، والآثار المتأخرة لتشديد السياسة النقدية المحلية. ويرى صندوق النقد الدولى أن الدول المُصدرة للنفط يجب أن تركز على جهود التنويع الاقتصادى، مع تعزيز الاحتياطيات المالية لتعزيز مرونتها. كذلك من المُتوقع أن يتراجع النمو فى العراق إلى 4% فى 2023، و2.9% فى عام 2024، وهو أقل من وتيرة ما قبل الجائحة. ومن المُرجح أن يؤدى نقص المياه والكهرباء، فضلًا عن عدم الاستقرار السياسى والأمنى، إلى إعاقة المسار التنموى فى هذا البلد. ومن المُتوقع أن تشهد سوريا مزيدًا من الانكماش فى عام 2023، ويواجه اقتصادها صدمات متعددة، بما فى ذلك التأثيرات المناخية، والعنف المُستمر، وعدم اليقين بشأن السياسات، ونقص الوقود. ونتيجة للأوضاع غير المُستقرة فى سوريا، انخفض الدخل إلى النصف بين عامى 2010 و2020، وتواجه الأسر مستويات غير مسبوقة من الفقر وانعدام الأمن الغذائى.

وفى سائر الدول المُستوردة الصافية للنفط فى المنطقة، من المُتوقع أن يظل النمو ثابتًا خلال الفترة 2023- 2024، عند معدل يزيد قليلًا على 4% سنويًا، لكن يؤدى ارتفاع التضخم فى معظم تلك الدول إلى تآكل الأجور الحقيقية، مما يؤثر فى الاستهلاك المحلى، الذى يُعد الرافد الأهم للنمو فى الدول كثيفة السكان. ومن المُرجح أيضًا أن يؤدى ضعف نمو الطلب الخارجى إلى الحد من النشاط فى قطاعى التصنيع والسياحة، وأن يؤدى تشديد السياسة المالية والنقدية (بهدف كبح جماح التضخم المُرتفع والعجز فى الحساب الجارى) إلى تقييد النمو.

ومن المُتوقع أن ينتعش النمو فى المغرب إلى 3.5% فى عام 2023- أى أقل من التوقعات السابقة- وإلى 3.7% فى عام 2024، مع تعافى قطاع الزراعة تدريجيًا من الجفاف الذى شهده العام الماضى. ويُنتظر أن يعوض الإنفاق الحكومى جزئيًا ضعف الاستهلاك الخاص الناجم عن ارتفاع التضخم.

ومن المُمكن أن يؤدى المزيد من التدهور فى الظروف المالية أو الاقتصادية العالمية والمحلية خلال العام الجديد إلى مزيد من المعاناة فى الاقتصادات التى تعانى من اختلالات هيكلية كبيرة فى الاقتصاد الكلى. وعلى الرغم من عدم مراجعة تلك التوقعات بشكل جوهرى فى ضوء تداعيات حرب غزة، فإن الاتجاهات العامة للنمو تظل مُعبّرة عن سائر العوامل الاقتصادية الأخرى.

استجابات متباينة:

إذ كان مصدرو النفط يستفيدون من ارتفاع أسعار الطاقة نسبيًا فإن الاقتصادات متوسطة الدخل تتأثر بالقيود الناجمة عن عدم الاستقرار المالى. وتعانى الدول منخفضة الدخل من ارتفاع أسعار السلع الأساسية والآثار المُستمرة لجائحة «كورونا»، فضلًا عن تداعيات الحرب فى كل من أوكرانيا وغزة. واستمر التضخم فى الارتفاع عام 2023، ومن المُتوقع أن تظل قيمه مكونة من خانتين حتى نهاية العام على الأقل، كما أن التعافى من الصدمات التضخمية قد يستهلك النصف الأول من عام 2024 على أقل تقدير، وذلك بافتراض بقاء سائر العوامل الأخرى على حالها.

ويشهد معدل التضخم تراجعًا فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، باستثناءات محدودة. ومن المُتوقع أن يرتفع متوسط التضخم فى المنطقة إلى 17.5% عام 2023، و15% عام 2024. ويرى تقرير حديث لصندوق النقد الدولى، صدر فى أكتوبر الماضى، أنه على الرغم من انخفاض التحديات العالمية غير المواتية مقارنةً بشهر إبريل 2023، فإن التهديدات المتعلقة بالمناخ تتزايد، فى حين أن الانخفاض (الأسرع من المتوقع) فى التضخم العالمى، من شأنه أن يقلل الضغوط على البنوك المركزية فيما يتعلق بالمزيد من رفع أسعار الفائدة. ومع ذلك، لاتزال هناك مخاطر عديدة، بما فى ذلك احتمال انخفاض الطلب الخارجى فى حالة حدوث تباطؤ أكثر حدة فى الصين، على خلفية أزمتها العقارية، وارتفاع ضغوط الأسعار العالمية بسبب تصاعد الحرب فى أوكرانيا، والكوارث المرتبطة بتغير المناخ أو الكوارث الطبيعية.

ووفقًا لصندوق النقد الدولى، فإن استعادة استقرار الأسعار، ومعالجة انعدام الأمن الغذائى، وتخفيف أزمة تكاليف المعيشة، وحماية الفئات الضعيفة، تُعد جميعًا من أولويات السياسات الاقتصادية فى المنطقة خلال عام 2024. وشدد الصندوق على أهمية إعطاء الأولوية لاستقرار الأسعار فى السياسة النقدية. وبالنسبة للدول التى تعانى من ضغوط تضخمية مُستمرة، ينبغى أن تظل السياسة متشددة. علاوة على ذلك قد تحتاج بعض دول شمال إفريقيا إلى النظر فى اتخاذ تدابير تشديد إضافية. وفى الدول التى بدأ فيها التضخم فى العودة إلى المستوى المُستهدف ينبغى تخفيف السياسة المتشددة بحذر.

تحدى التمويل:

تؤدى الشركات الصغيرة والمتوسطة دورًا مهمًا فى اقتصادات المنطقة، إذ يُعتمد عليها بشكل متزايد فى تحقيق النمو الاقتصادى واستيعاب العمالة. ولايزال الوصول إلى التمويل أحد أكبر التحديات التى تواجه تلك الشركات فى المنطقة، إذ يفتقر ما يقرب من 63% من الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى الوصول لرأس المال التجارى. وتشير التقديرات إلى أن إجمالى فجوة التمويل للشركات الصغيرة والمتوسطة فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يتراوح بين 210 إلى 240 مليار دولار (تُقدر فجوة القطاع الرسمى منها بما يتراوح بين 160 إلى 180 مليار دولار).

ويُظهر مسح حديث أجراه البنك الدولى واتحاد المصارف العربية على أكثر من 130 بنكًا فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أن 8% فقط من الإقراض يذهب إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة فى جميع أنحاء المنطقة، ويبدو هذا الرقم أكثر وضوحًا فى دول مجلس التعاون الخليجى، إذ يصل 2% فقط من الإقراض إلى الشركات الصغيرة.

وليس من المُستغرب أن تتميز الأعمال المصرفية فى المنطقة بممارسات إقراض متحفظة، إذ يتم تقليل مخاطر الائتمان إلى الحد الأدنى، من خلال فرض متطلبات ضمانات عالية. فالافتقار إلى الضمانات الكافية هو العائق الأول (كما أفاد المقترضون) الذى يمنعهم من الحصول على تمويل من البنوك التجارية.

تقديرات البطالة:

تشكل معالجة العوائق الهيكلية طويلة الأجل التى تحول دون خلق فرص العمل على المستوى الإقليمى تحديًا كبيرًا، وتزداد صعوبة الأمر بسبب العديد من الاعتبارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى تحد من فاعلية أى مسار عمل منفرد. وفيما يتعلق بالتوظيف الإجمالى فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تستحوذ الشركات الصغيرة والمتوسطة على حصة عالية من العمالة فى القطاع الخاص، ولاسيما فى الدول التى بها قطاعات غير رسمية كبيرة، وتوفر تلك الشركات حوالى 40% من جميع الوظائف.

ويُقدر معدل البطالة بين الشباب فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنحو 25%، وهو أعلى بنحو خمس مرات من معدل البطالة بين كبار السن. وفى شمال إفريقيا، أصبحت البطالة بين الشباب أكثر حدة، إذ يبلغ معدل البطالة 30% لكلا الجنسين، و45% بين الفتيات.

تأثيرات الحرب:

لاشك أن إسرائيل وقطاع غزة والضفة الغربية هى الجبهات الأكثر تضررًا من الحرب الحالية، لكن التأثير الاقتصادى يمتد إلى ما هو أبعد من مناطق القتال. إذ تعانى الدول المجاورة، مثل مصر والأردن ولبنان، بالفعل من أصداء اقتصادية. فوسط مخاوف بشأن خطر التصعيد، ألغى عدد من السائحين والمستثمرين زياراتهم إلى المنطقة، مما أدى إلى ضرب شريان الحياة لهذه الاقتصادات. وتُعد السياحة، التى شكلت ما بين 35% إلى ما يقرب من 50% من صادرات السلع والخدمات فى تلك الاقتصادات عام 2019، مصدرًا بالغ الأهمية للنقد الأجنبى وفرص العمل. وستشهد الاقتصادات المعتمدة على السياحة، مثل لبنان، تأثيرات غير مباشرة فى النمو، إذ انخفضت معدلات إشغال الفنادق بنسبة 45 نقطة مئوية فى أكتوبر 2023 مقارنة بالعام السابق عليه.

وقد تكون أزمة حرب غزة بمثابة بداية حقبة من عدم اليقين فى العديد من دول الشرق الأوسط إذا لم يتم التعامل معها على النحو المناسب، خاصةً فى ضوء التحديات الهيكلية القائمة، والبيئة العالمية الأكثر عُرضة للصدمات. ويمكن أن تساعد الإصلاحات الهيكلية على دعم النمو على المدى القريب، وآفاق النمو على المدى الطويل. ومن المُرجح أن تتمكن الاقتصادات الأقوى والأكثر مرونة من تحمل الصدمات المفاجئة.

وتتوقع مؤسسة «فيتش» أن يتفوق النشاط الاقتصادى والأساسيات فى دول مجلس التعاون الخليجى على بقية منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فى عام 2024. وسيدعم الاقتصاد غير النفطى القوى فى دول الخليج واستقرار إنتاج النفط انتعاش الاقتصاد، عبر تعزيز النمو، والحفاظ على فائض فى معظم حساباتها الجارية وأرصدتها المالية. فى مقابل ذلك، ستواجه دول شمال إفريقيا مجموعة مختلفة من المشكلات الهيكلية، أبرزها العجز التوأم، المتمثل فى عجز الموازنات العامة وعجز ميزان المدفوعات، فضلًا عن ارتفاع البطالة.

إن التفاوت فى الدخل والثروة بين دول مجلس التعاون الخليجى من ناحية، وبعض دول الجوار مثل: اليمن، والدول منخفضة الدخل، مثل: الأردن وسوريا ولبنان وتونس والمغرب، التى تكافح من أجل احتواء الفقر والبطالة من ناحية أخرى، يجعل التوقعات لعام 2024 شديدة التباين داخل الإقليم. وإذا تسببت الحرب فى غزة والضفة الغربية فى إحداث اضطرابات أكثر خطورة فى البحر الأحمر، فإن الدول الأكثر ازدهارًا فى المنطقة ربما لن تسلم من التداعيات السلبية.

ويمكن للأزمات أيضًا أن تكشف عن نقاط الضعف الأساسية، مما يؤدى إلى تفاقم المخاطر السلبية التى تهدد الآفاق المستقبلية. فقد يؤدى ارتفاع هامش المخاطرة إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض والتأمين، وهو ما قد يؤثر سلبًا فى الاقتصادات المُثقلة بالديون. علاوة على ذلك، فإن الدول الهشة والمتأثرة بالصراعات فى المنطقة يمكن أن تشهد انخفاضًا فى تدفقات المساعدات الحيوية، إذا تحوّل تركيز الجهات المانحة بعيدًا، ولم يتسع نطاق المساعدات الدولية لتلبية الاحتياجات العالمية المتزايدة.

وقد ارتفعت عائدات السندات الحكومية فى بعض الاقتصادات بالفعل على خلفية حرب غزة، وكان صافى تدفقات المحافظ إلى المنطقة (وهو مؤشر على جاذبية الاستثمار) يتراجع مع تطور الأزمة، لكنه عاد مؤخرًا إلى مستويات ما قبل الحرب، تمامًا كما فعلت أسعار النفط بعد استبعاد المتعاملين فى الأسواق لاحتمال تمدد الصراع إلى دول أخرى فى الشرق الأوسط.

د. مدحت نافع – مساعد وزير التموين والتجارة المصرى سابقًا، والخبير الاقتصادى
ينشر بالتعاون مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.


صحيفة المصري اليوم