رأي ومقالات

📍المعقول واللّا معقول في العلاقات الدبلوماسية.. قادمون وقدامى !!!

📍المعقول واللّا معقول في العلاقات الدبلوماسية (50)
قادمون وقدامى !!!
يرى نبلاء الإنجليز أنه مما ينافي النبل أن يتحدث النبيل فاغراً فَاه، ولذا يتحدثون بما يعرف بطريقة الشفة السفلى. وهذا ما رأيته في انجليزية السفير يوسف سعيد. وكان ذلك حين استنجدت بالخارجية وأنا قائم بالأعمال في نيروبي. وذلك أثر كتابة صحيفة (الإنقاذ الوطني) مقالاً انتقدت فيه الرئيس موي. كان ذلك في أوائل عام 1992.
استدعيت للخارجية لمقابلة الوكيلة سالي كوسيجي التي احتجت على ما كتبته الصحيفة؛ وكان أمامها قصاصة النص بالعربي وترجمة له للإنجليزية؛ وأبلغتني أن الرئيس موي لن يحضر القمة المزمع عقدها بالخرطوم. وحقيقةً لم أجد عذراً قوياً أو حيلة أعالج بها ذلك الحرج؛ فطلبت من الخارجية أن يحضر مسؤول كبير لإثناء موي بعد تطييب خاطره. وبالفعل بعثت الحكومة وزير الخارجية المرحوم علي سحلول ورافقه السفير يوسف سعيد الذي كان منتدباً كمدير للإدارة السياسية في القصر؛ ورافقتهم لمكتب الرئيس في ما يسميه الكينيون “بيت الدولة ” State House، وهو مقر رئاسة الدولة. وتحدث معه الوزير سحلول والسفير يوسف وطيَّبوا خاطره.
وبعد أن خرجنا قال الوزير سحلول للسفير يوسف: لقد تحدثت أفضل مني. كان يعني تماسك عباراته وحججه؛ وليس إنجليزيته؛ لأن سحلول كان مفوّهاً في الإنجليزية. وقد أكبرت في الوزير سحلول مقالته تلك للسفير يوسف؛ لأنها تَنُمُّ عن تواضع مثلما تَنُمُّ عن حرص على نِسبة الفضل لأهله.
وعاصرت السفير جعفر حسن صالح، الذي كان لواء في جهاز أمن نميري، ثم وزير تجارة مع نميري. وعيَّنته الإنقاذ سفيراً مع الراحل السفير عنايت عبد الحميد. واسم عنايت مضلل. لأنه يوحي أنه ممّن يطلق عليهم السفير المرحوم جلال عتباني مازحاً “الأقلية البيضاء” في السودان؛ علماً أن لونه نقيض ذلك تماماً. عُيِّن عنايت سفيراً لدى كمبالا. وكان هو أيضاً لواءً في جهاز أمن نميري. أما السفير عتباني ( إبن عم دكتور غازي ) فكان استاذاً مُجَرِّبَاً في الدبلوماسية ، وكان طريفاً لطيفاً ، وله ملكة في السخرية تحببك فيه رحمه الله .
وكانت علاقتي مع كليهما تتسم بكثير من التقدير والمودة، لدرجة أن عنايت ينزل معي في بيتي في نيروبي في معظم زياراته لنيروبي. وهو شيخ عرب لا يرتاح لقيود الدبلوماسية.
أما جعفر حسن صالح فقد عُيّن سفيراً في أسمرا بعد استقلال أريتريا مباشرةً. وكانت له علاقة خاصة مع الرئيس أسياس أفورقي (أفورقي بالتغرينية تعني فَمْ الذّهَب)؛ وكلمة (وَرِق) بالعربية هي الفضة أو الدراهم الخالصة. ومنه قوله تعالى {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} وكانت أريتريا تعتمد على السودان؛ وتطلب حتى كراسات التلاميذ وأقلام الرصاص، كما تطلب الجرارات الزراعية.
قال لي السفير جعفر – الذي كان داهيةً – إن سفيراً عربياً أفرط في شُربِ الصهباء ذات حفل كوكتيل دبلوماسي، وجاءه وهو ثَمِل قائلاً له أن يطلب من صديقه (يعني أفورقي) دخول الجامعة العربية؛ وكان أفورقي حاضراً، فلما اقترب من السفير جعفر وجمهرة من السفراء حوله، قال له إن ذلك السفير سألني أن أطلب منك دخول الجامعة العربية. فَسَبَّ أفورقي أم الجامعة العربية سباً قبيحاً بذيئاً؛ ثم أخذ يتحدث عن ما قال إنه حقيقة أجناس العرب الأعضاء في الجامعة، إلى أن وصل مصر فقال إن المصريين في أصلهم شراكسة وليسوا عرباً!!!
ولا يُذكر السفيران جعفر وعنايت إلّا ويُذكر معهم السفير عثمان السيد والسفير الفاتح عروة اللذان كانا ضابطين في أمن نميري. أما الفاتح عروة فقد كان محبَّباً مقرَّباً من البشير. ويقول عنه البشير: إن فصل أريتريا عن إثيوبيا (وفقاً لما بلغني) بعد توفيق الله فإن نجاحه يعود للفاتح عروة.
وكان عثمان السيد مقرَّباً موقَّراً لدى مليس زناوي – رئيس إثيوبيا بعد انفصال أريتريا عنها – وكان زناوي يناديه بعم عثمان. وأسقط زناوي قواعد البروتوكول الرئاسي إزاء تعامله مع السفير عثمان؛ فكان يدخل عليه متى شاء، بل إنّ زناوي يزوره في مقر سكنه بطريقة عفوية.
حكى لي السفير عثمان السيد أن زناوي سأله عن مآل أحد المعارضين السودانيين؛ فأجابه أنه انضم للحكومة وعيَّنته في منصب؛ فضحك زناوي من الدهشة وقال: This will never happen in Ethiopia “مثل هذا لن يحدث في إثيوبيا”. وكان عثمان السيد “شيخ عرب” وهو سفير بإثيوبيا. وقبل أن يعمل للإنقاذ كان عمل مع المخابرات السعودية؛ وفي ظنّي أنه كان يطّلع على التقارير التي كانت المعارضة تكتبها عني للأمن السعودي، وكان للأسف يصدقها رغماً عما انطوت عليه من أكاذيب ليضمنوا عطاءهم من السعوديين. والعمالة عندنا بكل أسف قديمة. والذي حملني على قول إنه يصدّقها هو أنه كان يوحي إليّ أن يعرف سلوكي السياسي في الرياض!!!
وكان جهاز الأمن السوداني قوياً وشديد الفاعلية، وقد كانوا يثقون بي فيمدونني بكثير من المعلومات عن العملاء والمتعاونين مع الأمن السعودي. لذا كنت أعرفهم بالاسم.
وكان زناوي مدركاً للفرق بين ما يفعله السودانيون وما يفعله الإثيوبيون. وفي هذا الصدد روى للرئيس إنه كان ومعه قوة من قواته داخلين على إثيوبيا قبل الانفصال؛ وارتاحوا قرب قرية سودانية، فجاءهم رجل بطعام، فلما لاحظ الرجل أن زناوي لا يأكل جاءه بحليب، فلما اعتذر عنه جاءه “بعرقي”!!! واعتذر عنه وشكر الرجل. ثم قال إنه مثل هذا التصرف من الرجل لا يحدث في إثيوبيا؛ ولو أن ظروفاً ألجأتكم كسودانيين إلى إثيوبيا لا تتوقعوا أن يعاملكم الإثيوبيون بمثل ما عاملتمونا به ونحن في اللجوء عندكم. وقد أثبتت هذه الأيام تحديداً صحّة ما تكهن به زناوي!!!
ولم يكن هؤلاء وحدهم من عيَّنتهم الإنقاذ سياسياً كدبلوماسيين وسفراء. وقد كنت في أول فوج من المعيَّنين سياسياً عام 1990. ولم يكن التعيين السياسي بدعاً في الخارجية السودانية ولا في خارجيات دول عديدة حول العالم. فقد عددت ممّن أعرف من سفراء في أيرلندا، ثمانية سفراء عيَّنتهم بلادهم بقرار سياسي، من بينهم سفراء من دول أوروبية لها عضوية في النيتو NATO. وأفادني بعضهم أن التعيين السياسي ليس وقفاً على السفراء في سلكهم الدبلوماسي.
وفي أميركا يقوم الرئيس الجديد بتغيير 25% من السفراء بطاقم سفراء يعينهم سياسياً. وأذكر أن سفير أميركا في كينيا كان من بين هؤلاء. وأذكر أنه قال إنه كان صحفياً، وأعان الرئيس بيل كلنتون في حملته الانتخابية، وطلب منه آنئذ أن يعينه سفيراً إذا فاز، فوعده. وبَرّ الرئيس كلنتون بوعده.
وللحقيقة فإن التعيين السياسي في السلك الدبلوماسي يَرْفِدُه بكوادر ذات قدرات ومواهب وخبرات مكتسبه من خارجه تُثْرِيهِ. وعادة ما تدفع الغيرة المِهنية قدامى الدبلوماسيين للنفور من المعيَّنين سياسياً بصورة عمياء، ومن باب الخشية أن يَبُزّهم هؤلاء الجُدد.
وفي خارجيتنا برز إلى السطح ذلك التنافس وتلك الغيرة، لدرجة أن بعض المعيَّنين سياسياً كانوا يحتقرون بعض من يرونهم دونهم تأهيلاً من القدامى فسموهم (الكرور) بدلاً عن كاريير Career. وكان بعض ذلك حكماً ظالماً.
وللحقيقة فقد تتلمذنا على أساتذة عظام كُثُر سبقونا وسنورد مناقبهم.
📍السفير عبد الله الأزرق
———————————
15 يناير 2024