رأي ومقالات

خيبة الإدارة

لإدارة مدار تخطيط وتنظيم أنشطة الكائنات الحية وتنسيق جهودها وتوجيهها نحو الأهداف التي تنشدها حسب القدرات التي تمتلكها والإمكانات التي تتوفر لها.. يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى بقدراته العقلية ومهاراته الذهنية الرامية لضبط إيقاع السلوك البشري واستثمار قدراته واستغلال طاقاته ضمن منظومات تتفاوت في الانتشار الجغرافي، وتتباين في الحجم والتسلسل الهرمي الذي يُنظم نشاطها والهيكل التنظيمي الذي يُحدد أهدافها والأدوار التي تؤديها والمهام التي تقوم بها ضمن قواعد تنظيمية وأسس تنفيذية لها صفة الاستمرار والديمومة والتطور.

تُوصف الإدارة بأنها علم وفن؛ علم بنظرياتها العلمية ومعارفها النظرية، وفن بمهاراتها التطبيقية وسماتها الشخصية، لكن تظل حقيقة ومنهجية الإدارة أسبق من هذا كله. فالإدارة منهج فطري وسلوك بشري يتشكل ضمن شخصية وكيان الطفل بداية عندما يحصل على الاهتمام والرعاية بصيحة، ويستدر العطف والحنان بصرخة، وبها أيضا يُمارس ضغوطًا على من حوله ليحقق أهدافه ويبلغ مرامه ضمن عمليات سلوكية تتابعية هي في جوهرها سلوك إداري تراكمي ينمو ويزدهر مع الإنسان.
في إطار هذه الممارسات الإدارية تُبنى العلاقات مع الأقران، وتُؤسس سبل الاتصال والتواصل بالأصدقاء على مر المراحل الدراسية والحياة العامة في إطار تنظيم غير رسمي، ما يلبث أن ينصهر ويتشكل ضمن تنظيم رسمي في مرحلة العمل والإنتاج والأداء ضمن كيانات إدارية عامة أو خاصة تحكمها قواعد وتُنظمها ضوابط وتتضمنها مشاعر تحكم السلوك وتُحفز نحو الأهداف أو تُثبطها.

المشاعر طاقة عجيبة بسماتها الإيجابية والسلبية التي في مجملها عاطفة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالسعادة والرضا واللذة وتقدير الذات والفرح والحب والفخر والحماس والإنجاز في الإيجابي منها. أو اليأس والإحباط والانكسار والحزن والانطواء والاكتئاب كما هو في السلبي منها.

يُنظر إلى المشاعر بتفاوت حول أن ما هو إيجابي نافع وما هو سلبي سيئ. في حين أن الأهم هو الجزم بأن المشاعر عامة تخدم هدفًا وتُحفز طاقة الإرادة وتُحرك رحى الإدارة الإيجابي والسلبي منها على حدٍ سواء، وأحيانًا قد تُحفز المشاعر السلبية كما تُحفز المشاعر الإيجابية بالدفع نحو الهدف الذي يُحفز الإدراك ويُحرك عناصر الإدارة.

الإدراك فهم واقعي يقود إلى السير قُدمًا نحو الأفضل بعيدًا عن خيبة الأمل واستحضار النكسات التي تقتل روح الإدارة وتُثبط العزيمة، خاصة بعد الفشل في تحقيق الأهداف أو خسارة المواقف، في تصور لأهمية وضع أهداف واقعية تُصاحبها وسائل مدعومة بأدوات تعمل على تحققها بالتدريج في نسق جدول زمني يتدرج خطوة بخطوة نحو مجمل الأهداف التي ينبغي تحقيق بعضها في وقت مبكر لتجنب الفشل.

خيبة الإدارة في الغضب والاستياء والمرارة والضغينة التي تنتاب العالم، وأفرزتها خيبة إدارة شعارها العلني الدفاع عن حقوق الإنسان والمبطن نهب الموارد وصراع الإيرادات في صور متعددة، مجملها يُشرعن للدول الأقوى في الحصول على تنمية أفضل على حساب دول أخرى أقل مهابة في مظهر للتنافسية غير العادلة المصبوغة بالغطرسة والظلم والبطش والاستغلال للآخر بالقوة والترهيب وأدوات الابتزاز التي تسحق الشعوب وتنهب ثرواتها بسبل قهرية ووسائل ابتزازية.

خيبة الإدارة تعكسها مشاهد تتكرر بسيناريوهات لا تختلف كثيرًا عن بعضها، غايتها تبرير سلوك انتهازي غاصب بأدوات إقليمية تخدم أجندات دولية يُديرها سلوك دولي قاهر بأساليب تسلطية لا تؤمن بعدل ولا تُقر بحق.

الامتنان سلوك إيجابي يُساعد في التحول من التركيز على السيئ والخطأ إلى النافع والصحيح. الرغبة الجامحة في الاستحواذ على الأشياء والاستيلاء على ما عند الآخرين، بانتهاج سلوك سلبي توسعي يُترجمه الشعور بالإحباط والإحباط المستمر الذي يدفع إلى التفكير باستمرار في الجوانب السلبية وعدم التركيز على الجوانب الإيجابية، التي تقود إلى وضع الأمور في نصابها الصحيح وليس في المكان والزمان الخطأ.

من اليسير تجنب خيبة الأمل والنكسات التي تُعرقل أهداف الآخرين وتُوقف نهضتهم. في حين يمكن تحقيق الأهداف بالعمل الإيجابي، الذي من المرجح بلوغها وتخطي الانتكاسات التي تعترضها على كل المسارات عند الأخذ بالخيار السليم.

تُوصيف واقعي ودقيق للسياسة الأمريكية بأن واشنطن تقوم بالخيار السليم عندما تستنفذ كل الخيارات السيئة. وكأن تجارب الماضي وخبرات الحاضر وعوامل النجاح وتجنب والفشل لم تكن حاضرة في أروقة القرار وحواضن رسم السياسات في الإدارة الأمريكية.

في حين ساد النجاشي بالعدل، والأحنف بالحلم، وحاتم الطائي بالكرم، وشُيدت الأهرامات بالإرادة الجادة، وفي ما مضى فاضت الأرزاق وكثر الغذاء في السودان، وازدهرت الحضارة في العراق والشام عندما لم تكن الإدارة خائبة.

خيبة الإدارة كلفت الأجيال الناشئة ما لا تُطيق بين غياب المسئولية وتراجع الاقتصاد وارتفاع التضخم وزيادة معدلات البطالة، وتفشي الفساد وتصاعد غلاء الأسعار وتراجع المبادئ وانحدار القيم وفقدان الروابط الاجتماعية، وغياب المسئولية الجماعية والرقابة الذاتية بين مُلهيات ومغريات جذبت جيل الشباب باتجاها، فتراجعت الإنتاجية وانخفض العائد وزادت بيئة العمل هشاشة في مشاهد متصاعدة لا يلوح في الأفق بوادر تحسنها.

أمام هذا المشهد هل ستبقى الإدارة خائبة؟ أم أن الفكر الإداري سيقدم للجيل الجديد نموذجًا إداريًا يلائم تحدياته ويواكب تطوراته أو سيبقى خائبًا كذلك؟.

محمد الفايدي – جريدة الدستور
26