السلام وأسرى الحرب والقوة
يقدم مؤرخ حرب فيتنام الشهير جورج ج. فيث رؤية جديدة وعميقة لثلاثة جوانب مهمة لحرب فيتنام وهي: النضال لتحقيق السلام، والصعوبات في تحقيق أقصى قدر ممكن من المحاسبة لأسرى الحرب/المقاتلين الأمريكيين، وشجاعة الفيتناميين الجنوبيين. يتناول الكتاب كيف تسببت السياسات السرية لهانوي (عاصمة فيتنام الشمالية من 1946 إلى 1976، وأصبحت عاصمة فيتنام الحالية منذ عام 1976) وسايغون (العاصمة السابقة لفيتنام الجنوبية) في فشل السلام بين فيتنام الشمالية والجنوبية، ويسلط الضوء على كيفية تلاعب هانوي بقضية أسرى الحرب.
يقدم فيث آراء عن كيفية تلاعب هانوي بالسلام لتحقيق النصر، وكيفية الاستمرار في حجب معلومات قيمة عن مصير الجنود الأمريكيين المفقودين، وكيفية محاربة الفيتناميين الجنوبيين لبناء دولة غير شيوعية.
يشرح المؤلف، وهو ضابط مدرعات سابق يتمتع بخبرة الخدمة في وحدات الدبابات في ألمانيا والولايات المتحدة، كيفية كتابته عن فيتنام، رغم أنه صراع لم يشارك فيه بشكل مباشر، لكن دفعه اهتمامه بالتاريخ العسكري والألغاز التاريخية في البداية إلى التحقيق في قضية أسرى الحرب، وهو أمر يرى أنه يتطلب الغوص العميق في تعقيدات حرب فيتنام. قاده هذا الفضول، إلى جانب الرغبة الطويلة في الكتابة، إلى اكتشاف وثائق غير مستغلة في ثكنات كارلايل التابعة للجيش في المركز المشترك لتعافي الموظفين، ما حفزه على تأليف كتابه الأول الذي ركز على العمليات السرية الواسعة النطاق التي قام بها الجيش الأمريكي لتحديد موقع أسرى الحرب/المقاتلين المسلحين وإنقاذهم أثناء الصراع في فيتنام.
وقدم عمله اللاحق، «لا تترك أحداً خلفك»، مذكرات بيل بيل، وهو شخصية رئيسية في التحقيقات الميدانية عن الأسرى بعد الحرب. وفي عام 2001 شجعه إم جي لو مينه داو، آخر قائد للفرقة الثامنة عشرة من جيش جمهورية فيتنام، حول معركة شوان لوك، على تأليف كتاب عن السنتين الأخيرتين من الحرب، فظهر كتابه «إبريل الأسود». كان هذا المشروع يهدف إلى تحدي الصور النمطية السلبية عن القوات الفيتنامية الجنوبية في وسائل الإعلام الأمريكية. أما في عمله هذا فيقدم فيه استكشافاً مؤثراً لواحدة من أكثر الفترات اضطراباً في التاريخ الحديث، بما يحمله من إضاءة على الأبعاد المتعددة الأوجه لحرب فيتنام، التي تركت تأثيراً كبيراً على السياسة العالمية والمجتمع والنفس البشرية.
يتنقل الكتاب عبر شبكة معقدة من الأحداث التي سبقت حرب فيتنام وأثناءها وبعدها، مسلطاً الضوء على المناورات الجيوسياسية، وتجارب أسرى الحرب، والإرث الدائم للصراع. يقدم المؤلف تحليلاً لمختلف أصحاب المصلحة المعنيين، من قادة العالم والاستراتيجيين العسكريين إلى المواطنين العاديين والجنود على الخطوط الأمامية، ويدمج الروايات المباشرة والحكايات الشخصية والمقابلات مع المحاربين القدامى والناجين، ويعيد الحياة إلى الدراما الإنسانية والمأساة وسط فوضى المعارك. يظهر المؤلف تضحيات أولئك الذين عاشوا هذه الفترة المضطربة في التاريخ. علاوة على ذلك، يقدم معاينة لعملية السلام وتحديات المصالحة بعد الحرب. كما يثير المؤلف أسئلة عن التكلفة الحقيقية للحرب، والطبيعة المراوغة للسلام، والندوب الدائمة على الأفراد والمجتمعات بعد فترة طويلة من صمت الأسلحة.
تعقيدات استراتيجية
أحد الجوانب البارزة في الكتاب (صادر عن دار «ثانغتودن» باللغة الإنجليزية ضمن 374 صفحة)، هو معاينة فيث لاتفاقيات باريس للسلام والدوافع وراء القرارات التي اتخذها المكتب السياسي لفيتنام الشمالية. يخوض فيث في تعقيدات حسابات هانوي الاستراتيجية ومناوراتها الدبلوماسية، ويقدم رؤية عن التعقيدات الكامنة وراء عملية السلام. يشير إلى أن الفشل المذهل لاتفاقيات باريس للسلام في يناير 1973، والتي انهارت أخيراً عندما تدفقت أعمدة مدرعة فيتنامية شمالية إلى سايغون في 30 إبريل (نيسان) 1975، إلى ظهور العديد من المقالات والكتب التي تحاول فهم استراتيجية وأهداف نيكسون وكيسنجر. علاوة على ذلك، خلال السنوات الخمس الماضية، تم إصدار الكثير من الوثائق الحكومية الأمريكية والتدقيق فيها.
وعلى الرغم من عدم ظهور إجماع حول السياسة الأمريكية بين الخبراء، إلا أن اتفاقيات باريس لا تزال تثير جدلاً حاداً. والأمر الأقل فهماً هو دوافع واستراتيجيات وسياسات المكتب السياسي في فيتنام الشمالية. على الرغم من أن الحزب الشيوعي قد نشر كتباً للعديد من المشاركين، أبرزها مفاوضات لو دوك ثو-كيسنجر في باريس للو فان لوي، إلى جانب العديد من مجموعات الوثائق الرسمية، إلا أن العديد من المصادر الأولية تظل مغلقة في أرشيفات هانوي. ومع ذلك، فقد تم إصدار ما يكفي لتمييز الخطوط العريضة الباهتة لما حدث خلال تلك الأوقات المضطربة. يتساءل المؤلف: «ما الذي كان المكتب السياسي يأمل في تحقيقه من خلال هجوم عام 1972؟ لماذا قررت هانوي التوقيع على الاتفاقية؟ ما الأحداث أو السياسات التي أدت إلى العودة إلى الحرب؟ من الذي أيد كل قرار، ولماذا؟» يقدم المؤلف تحليلاً بالاعتماد على المنشورات الفيتنامية الشمالية، ليجد أن النتيجة هي اكتشاف أن المكتب السياسي، قبل سنوات من التوقيع، قد فكر بعناية في خياراته ووزن السيناريوهات المحتملة لتتويج معاهدة السلام؛ ومع تطور الأحداث، اتبعت هذا المسار، وإن كان مع بعض الانعطافات والنكسات. وبعد التوقيع، قام المكتب السياسي مرة أخرى بتقييم خياراته، ثم قرر التخلي عن اتفاقات باريس للسلام في وقت أبكر بكثير مما تم الاعتراف به في أي وقت مضى.
يعاين الكاتب الاعتبارات الاستراتيجية والمكائد السياسية وراء الهجوم الرئيسي للجيش الشعبي الفيتنامي (القوة العسكرية لجمهورية فيتنام الاشتراكية والجناح العسكري للحزب الشيوعي الفيتنامي الحاكم) في عام 1972 أثناء حرب فيتنام. بعد تحقيق انتصار كبير على القوات الفيتنامية الجنوبية في لاوس، قرر المكتب السياسي لفيتنام الشمالية، بعد أن شجعه ما اعتبره موقعه العسكري المتفوق، في مايو(أيار) 1971 شنّ هجوم حاسم لتقويض سياسة الفتنمة الأمريكية (كانت الفتنمة إحدى سياسات إدارة ريتشارد نيكسون لإنهاء تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام من خلال برنامج لتوسيع وتجهيز وتدريب القوات الفيتنامية الجنوبية وتكليفها بدور قتالي متزايد، وفي الوقت نفسه تقليل عدد القوات المقاتلة الأمريكية) وإجبار الولايات المتحدة على الانسحاب من لاوس.
الانقسامات الداخلية في فيتنام الشمالية
يتعمق الكتاب في أهداف إبادة قوات العدو، وتعطيل جهود التهدئة، ودعم الحركات الجماهيرية لتقويض حكومة فيتنام الجنوبية، وكيفية إنشاء تحالف سياسي ثلاثي الأحزاب يؤدي إلى إعادة التوحيد تحت السيطرة الشيوعية. ويسلط العمل الضوء على توقيت الهجوم ليتزامن مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بهدف الاستفادة من المناخ السياسي لإجراء مفاوضات مواتية. على الرغم من الجهود الدبلوماسية المستمرة، ظلت القيادة الفيتنامية الشمالية، وخاصة من الأمين العام لو دوان، تركز على النصر العسكري باعتباره الطريق الرئيسي لتحقيق أهدافها، مع لعب الدبلوماسية دوراً ثانوياً وداعماً. يكشف الكتاب عن الانقسامات الداخلية داخل القيادة الفيتنامية الشمالية، ولا سيما تحفظات الجنرال الكبير فو نغوين جياب بشأن الهجوم، والتي تتناقض مع حملة لو دوان للهجوم.
يتطرق الكتاب أيضاً إلى الاستعدادات المكثفة للهجوم، بما في ذلك الحصول على المعدات العسكرية السوفييتية والصينية واستراتيجيات لتعزيز الدعم المعنوي والسياسي داخل فيتنام الجنوبية. يستكشف المؤلف وجهات نظر لو دوان ولو دوك ثو ويوضح إيمانهما بحتمية النصر من خلال مزيج من النجاح العسكري والإثارة السياسية، على الرغم من الاعتراف بالتحديات المقبلة.
يقول المؤلف: «تم توقيت الهجوم ليتزامن مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية، على أمل أن يقدم الأمريكيون، تحت ضغط الحملة السياسية، تنازلات أكبر لتسوية الحرب. لقد كان هذا هو الحل لاستراتيجية «حديث القتال» التي اتبعتها هانوي: ممارسة أقصى قدر من الضغط العسكري وتحقيق نصر كبير، ثم تقديم تسوية بشروطها عندما كانت الولايات المتحدة في أمسّ الحاجة إلى التوصل إلى اتفاق. وعلى الرغم من أن المكتب السياسي كان قد شرع سراً في الاستعدادات لجولة جديدة من القتال في عام 1971، إلا أن دبلوماسييه استمروا في مناقشة التسوية مع الأمريكيين. لم يتم إحراز أي تقدم، لأن هانوي لم تكن مهتمة بالتوصل إلى حل وسط. في أوائل يوليو (تموز)1971، أرسل الأمين العام لو دوان برقية إلى لو دوك ثو وشوان ثوي في باريس يوضح فيها استمرار سياستيه الأساسيتين:«في كفاحنا الدبلوماسي ضد العدو، يجب أن نركز جهودنا… لإنشاء قوات قوية» تؤدي إلى الضغط داخل الولايات المتحدة، وحتى داخل مجلس الشيوخ الأمريكي ومجلس النواب، لإجبار نيكسون على اتخاذ قرار واضح ونهائي بسحب القوات الأمريكية من فيتنام الجنوبية. وفي أكتوبر(تشرين الأول) 1971 عرضت الحكومة الأمريكية مبادرات جديدة لإعادة بدء المفاوضات المتوقفة. رفض المكتب السياسي التقدم ورفض تقديم اقتراح مضاد».
القرار رقم 20
ويضيف: «أمضى الجيش الشعبي الفيتنامي ما تبقى من عام 1971 في دمج كميات كبيرة من المعدات السوفييتية والصينية الجديدة. وتم تخزين الإمدادات، ونقل دفاعات جوية كبيرة بالقرب من جنوب فيتنام لحماية جحافلها المتنامية. وبسبب ثقتها في قوتها المتزايدة بشكل كبير، أصدرت اللجنة المركزية بحلول مارس (آذار) 1972 القرار رقم 20، الذي أيد رسمياً الهجوم الضخم. وخلص المرسوم المهم إلى ما يلي:«إن عام 1972 بالغ الأهمية في كفاحنا ضد العدو. إنه مهم على الجبهات الثلاث: العسكرية والسياسية والدبلوماسية. إن ميزان القوى والموقع الاستراتيجي في جميع ساحات القتال يتغير بشكل مطرد. نواجه الآن فرصة مواتية لإحراز تقدم قوي في حرب المقاومة لدينا وعلى الرغم من المظهر الخادع للإجماع في الحزب وصانعي القرار الذي يحب الفيتناميون إظهاره، إلا أن الحكم على شنّ الهجوم لم يكن بالإجماع. واعترف لو دوك ثو للحزب الشيوعي الفرنسي بأن «القرار لم يتخذ في النهاية إلا نتيجة لتصويت الأغلبية». أحد أعضاء المكتب السياسي الذين عارضوا الهجوم كان الجنرال الكبير فو نغوين جياب. وأبلغ ممثل الحزب الفرنسي في هانوي زملاءه بأن جياب لديه «تحفظات» بشأن الهجوم. كان جياب قد أعرب عن مخاوفه بشأن قدرة فيتنام الشمالية على إمداد قواتها الجنوبية بشكل كافٍ، وهو القلق الذي ثبت فيما بعد أنه كان منطقياً. ومع ذلك، كان من المعتقد على نطاق واسع في ذلك الوقت أن جياب دفع بقوة للهجوم. فقط في يونيو(حزيران) 2007 تمكن أحد الباحثين من التحقق من أن جياب اعترض عليه في الواقع. وأكد كاتب سيرة جياب الرسمي، العقيد تران ترونغ ترونغ، أن جياب (عارض الخطة لكنه مضى من أجل الوحدة)».
ويتساءل:«ومن إذن الذي حث على الهجوم؟ ليوضح أن جميع الأدلة تشير إلى أن لو دوان هو المؤيد الرئيسي. وأوضح ممثل الحزب الفرنسي في هانوي كيف اعتقدت وجهة نظر الأغلبية في المكتب السياسي أنه بمجرد محاصرة قوات الجيش الشعبي الفيتنامي لسايغون، «سيكون الكادر السياسي، مع الصحافة الأجنبية، قادراً على استقطاب السكان… لصالح هانوي». كان الهدف الرئيسي هو «تحقيق رحيل ثيو، فهو وحده يقف في طريق تنفيذ خططنا». وكان المكتب السياسي ينظر إلى ثيو، مثله مثل نغو دينه ديم من قبله، باعتباره الغراء الذي يربط فيتنام الجنوبية ببعضها بعضاً. إذا تمت إزالة ثيو، فإن الفتنمة، وبالتالي الهيكل الحكومي، سوف تتفكك. بالنسبة إلى لو دوان، فإن النصر سيأتي في المقام الأول من عاملين: النجاح في ساحة المعركة والإثارة السياسية بين الناس. من خلال تحطيم الجزء الأكبر من جيش ثيو وتطوير الدعم السياسي الجماهيري من مستوى القاعدة الشعبية إلى المثقفين الحضريين، كان لو دوان يأمل في خلق مثل هذه الفوضى التي قد تؤدي إلى انهيار حكومة فيتنام الجنوبية تحت موجة من الاحتجاجات والتمردات العسكرية. لقد كانت عقيدة ماركسية مطعمة بالظروف الفيتنامية. فالدبلوماسية، رغم دعمها لساحة المعركة، كانت مسرحاً ثانوياً.
رغم أن هذا الكتاب يبدو متحيزاً في آرائه بعض الشيء، لكن يمكن أن نوضح ما يهمنا هنا هو المعلومات التاريخية والاطّلاع على الرويات من وجهات نظر مختلفة، والإضاءة على هذه الفترة، والأهم أنه يركز على الجانب الإنساني للحرب، ويكشف عن المعاناة والمآسي التي تخلفها الحروب على كافة أشكال الحياة.
تعدّ حرب فيتنام إحدى أهم الحروب في القرن العشرين، وخلّفت تعقيدات كبيرة على العالم الذي نعيش فيه اليوم. يقدم هذا الكتاب رواية تاريخية عن تلك الفترة المضطربة ويتأمل طبيعة الصراع وضرورة سعي الإنسانية إلى السلام.
ترجمة وعرض: نضال ابراهيم – صحيفة الخليج