تحقيقات وتقارير

وسط تقاطع الأجندات: ميلاد رؤية وطنية مستقلة لتأسيس سودان ما بعد الحرب

اشتدت الأزمة في السودان، وتكاثرت المبادرات الخارجية لإنهاء الحرب في البلاد، وبعد قرابة العام على اندلاع الحرب، حاول كثيرون إقليمياً ودولياً أن يمرر أجنداته عبر عدد من المبادرات الخارجية، وسرعان ما تكشفت النوايا الحقيقية وراء هذه المبادرات، ففشل بعضها، وتجمد بعض آخر لتقاطع المصالح، وتنافست وتصارعت رؤى الحلول.

وعندما أيقن الوطنيون في السودان أن أزمتهم لن تحل إلا بأيديهم بمساعدة المخلصين في الإقليم، والذين يقفون سداً منيعاً لمنع التدخل في الشؤون الداخلية للسودان والحفاظ على مؤسساته وعلى رأسها القوات المسلحة صمام الأمان المتبقي لهذا البلد المكلوم، سارع كثيرون الآن لحوار سوداني سوداني شامل ودون إقصاء، في محاولة لبناء تماسك حقيقي سياسياً واقتصادياُ وأمنياً.

وبعدما اطمئن الوطنيون من امتلاك الجيش لزمام الأمور على أرض الصراع العسكري، ماجعل أصحاب الأجندات الداخلية والخارجية يهرولون لفرض مبادرات خارجية تأتي بهم في المعادلة السياسية الجديدة في سودان ما بعد الحرب، يناهضهم أصحاب مبادرات داخلية يسعون لتأسيس جديد يفضي إلى مستقبل يتجنب كل الأخطاء التي أدت إلى هذه الحرب.

وسط هذه المبادرات الداخلية أعلن أمس عن ميلاد رؤية جديدة، إيماناً ويقيناً من أصحابها بأن الأزمة لن تحل إلا داخلياً، ولقطع الطريق أمام أي أطماع خارجية تنفذ بأذرع داخلية، تعيد إنتاج الأزمة من جديد، أو ربما تساعد في خلق دولة تحت سيطرة الطامعين.

ركائز المنصة

بالأمس تم الإعلان عن وثيقة سياسية جديدة أسماها الموقعون عليها (منصة التأسيس الوطنية)، قالوا إنه جرى التوافق عليها بواسطة نخبة من أهل السياسية والرأي من خلفيات سياسية وفكرية متنوعة، بالإضافة لشخصيات وطنية بارزة ورموز المجتمع المدني، وإنه سوف يتم مشاركة الوثيقة مع القوى السياسية الوطنية للتوافق عليها كي تشكل خارطة طريق للمستقبل القريب للفترة التي تعقب نهاية العمليات العسكرية.

وجاء في ركائز المشروع أن المجموعة المتنوعة التي تبنت وثيقة منصة التأسيس الوطنية لا تمثل تحالفاً سياسياً ولا عملاً جبهوياً وإنما هو جهد وعصف فكري للإسهام في تشكيل التوجهات العامة لفترة ما بعد الحرب، وذلك بهدف أن يتم الإنتقال بسلاسة من الوضع شبه الدستوري الراهن في السودان إلى وضع يتوفر فيه أكبر قدر من التراضي بين المكونات الوطنية والتمثيل الشعبي، حيث إن التفويض الشعبي عبر الإنتخابات غير متاح في الوقت الراهن.

آليات مؤقتة

واقترح الموقعون ثلاث آليات مؤقتة هي (اللجنة الوطنية للتأسيس ومجلس التأسيس الوطني والحوار السوداني السوداني) كآليات لتحقيق ذلك التمثيل والتمهيد قبل الإنتقال إلى التفويض الإنتخابي.
وتبنت منصة التأسيس الوطنية خيار أن تبتعد الأحزاب عن المشاركة المباشرة في مؤسسات الحكم خلال الفترة الإنتقالية، وأن تكتفي بالمشاركة في الحوار السوداني السوداني وبتمثيل رمزي في مجلس التأسيس الوطني، وأن يكون لها رأي في القضايا المتعلقة بأوضاع ما بعد الإنتقال مثل قانون الإنتخابات وقانون الأحزاب، وعلى أن تتفرغ الأحزاب لبناء هياكلها والتواصل مع منسوبيها وناخبيها إستعداداً للاستحقاق الإنتخابي.

ولتسليط مزيد من الضوء على هذه المبادرة الجديدة، حاولت “المحقق” التواصل مع الموقعين عليها، لنتبين أكثر الفكرة والتكوين والأهداف وآليات التحرك المستقبلية، وإلى أي مدى يمكن أن يصمد هذا الطرح الوطني أمام الرياح الخارجية العاصفة المحملة بكل الأطماع في السودان.

فترة عابسة

السفير عبد المحمود عبد الحليم سفير السودان السابق بالقاهرة وأحد الموقعين على المبادرة أكد من جانبه أن السودان يمر بفترة وصفها بـ “العابسة” في تاريخه. وقال عبد المحمود لـ ” المحقق” إن بلادنا تمر بمفترق طرق لم يكن متخيلاً فى أسوأ كوابيسنا، وبمخاض أن تكون أو لا تكون وأن نتجاوز هذه التجربة المريرة أو أن تذهب ريحنا فى أتون هذه الحرب المدمرة والتى سبقها انسداد الأفق السياسي، مضيفا أننا تداعينا وتحدثنا وأكدنا أن راية هذا الوطن العملاق لاينبغى أن تسقط أبداً، وأن المحن تلد المنح مستلهمين تجارب الدول التى خرجت من صراعاتها بأقوى مما كانت.

مؤكداً أن هذه المجموعة من رموز المجتمع وشخصياته بتنوع تجاربها وفكرها، لا تمثل تحالفاً سياسياً أو تشكيلاً مناطقياً أو عملاً جهوياً، وقال إنما خرجت عبر تدارسها وعصفها الذهنى بمجموعة من الأفكار والمقترحات، التى نأمل أن تشكل لوحة الآداء، بعد أن تضع الحرب أوزارها.

وتابع توافقنا على قيام منصة التأسيس بانطلاق آليات اللجنة الوطنية للتأسيس، ومجلس التأسيس الوطنى والحوار السودانى السودانى كآليات لتحقيق التوافق والتراضي الذى يسبق التفويض الذى ستمنحه الإنتخابات، وأضاف رأينا كذلك أن تبتعد الأحزاب عن المشاركة المباشرة في مؤسسات الحكم خلال الفترة الإنتقالية، موضحاً أن المبادرة وضعت كذلك التدابير التي تحول دون سيطرة الجنانب العسكري على الفترة الإنتقالية، وقال إن هذه الأفكار ستكون للتشاور مع القوى السياسية الوطنية للتوافق بشأنها.

طيف واسع

من جهتها أوضحت الدكتورة ميادة سوار الذهب رئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي وأحد الموقعين على المبادرة أن منصة التأسيس الوطنية هي فكرة طُرحت معالمها الرئيسية قبل عدة أشهر، وأنه تداول في شأنها طيف واسع من المهتمين بالشأن العام من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية.

وقالت سوار الذهب لـ “المحقق” إن منصة التأسيس رؤية مطروحة للجميع، وإنها ستعرض على جميع الكتل السياسية والمجتمعية والرموز الوطنية، مضيفة وتبقى الصيغة المطروحة قابلة للتعديل متى ما كانت هناك حاجة لذلك، مبينة أن القصد هو خلق أكبر إجماع ممكن بين السودانيين للتداول والإتفاق على الكيفية التي يخرجون بها بلادهم من أزمتها الراهنة ويبنون بها وطناً ناهضاً.

وأوضحت أن المبادرة هي رؤية أو خارطة طريق للإسهام في تشكيل التوجهات العامة لفترة ما بعد الحرب، وأنه توافقت عليها شخصيات مؤثرة في الساحة أصحاب خلفيات فكرية متنوعة، لافتة إلى أن منصة التأسيسي تسترشد بكتابات ومساهمات السياسين والخبراء والأكاديمين.

مشروع وطني

وأكدت سوار الذهب أن عامل القوة في المبادرة ينبع من جوهر الفكرة والدواعي الملحة لإنشاء منصة تأسيسية بعد هذه الحرب التي أبانت بجلاء إحتياج أهل السودان إلى مشروع وطني متكامل يحقق الإجماع المطلوب للسودانيين في المرحلة الحالية المفصلية والتي تتمثل في إعادة تأسيس الدولة بعد الحرب، وقالت في هذا نحتاج إلى مقترحات عملية تأسيسية لتكون أساساً بإجماع أكبر عدد ممكن من السودانيين لبناء دولة حديثة لتحقيق الرفاه والاستقرار، مضيفة أن هذا يتطلب مؤسسات وطنية قومية يتفق السودانيون على تكوينها ومهامها ونتائج أعمالها، وأنه سيتم التواصل مع جميع المكونات السياسية والمؤسسات السيادية، وأن المبادرة قابلة للتطوير.

فرص وتحديات

محمد محمد خير الكاتب والمحلل الصحفي وصف من جانبه المبادرة بـ ” الطرح الجيد والمناسب” لحل الأزمة في السودان، معلناً دعمه الكامل لهذه الرؤية. وقال خير لـ “المحقق” إن هذا الطرح يتسم بالعقلانية التي يفتقدها السياسي السوداني، مضيفا أن الأشخاص الموقعين على المبادرة معروفين بالكفاءة ونكران الذات وعدم الرغبة في السلطة والسمعة الطيبة في الأوساط العامة ولهم مكانة كبيرة.

مضيفاً أن هذا المشروع يختلف عن مشاريع داخلية أخرى مقدمة للحل الآن، وأن الإختلاف يكمن في أن أصحاب المشاريع الأخرى لديهم أطماع في السلطة، وهذا ينعكس بصورة مباشرة على مشاريعهم ورؤاهم في الحل، مؤكداً أن هذه الرؤية يمكن أن تجد طريقها في الحل – مستدركاً في الوقت نفسه – ولكنها ستقابل بتحديات كبيرة وحملة مضادة من الطامعين في السلطة، وقال يجب أن تتضمن آليات المبادرة سند إعلامي وأشخاص تتصدى لها ليس حولهم شبهات.

ولفت الأستاذ محمد محمد خير إلى أن ظهور مثل هذه المبادرات الداخلية يعكس استشراف وضع جديد بالبلاد، وربما تكون مؤشراً على أن الحرب ستضع أوزارها قريباً، وأن هذه المجموعات تحاول أن تستعد لمرحلة ما بعد الحرب، ورهن استمرار ونجاح مثل هذه المبادرات بمدى استقلاليتها وقوة الذين يدافعون عنها بعيداً عن شهوة السلطة.

القاهرة – المحقق: صباح موسى