رأي ومقالات

عادل عسوم: (طالتبنا الغيبة) بديعة معتصم ابراهيم

يجمع الناس بأن أجمل مافي شِعْرِنا ل هو شعر الحنين الى الديار.
وهذا الغرض الشعري برغم وجوده بكثافة في جل أشعار اهلنا في السودان إلا أن اسلوب التعاطي معه في ثنايا أشعارنا يختلف كثيرا، فلايسع المتلقي الا ويعلم يقينا بأن هذه الكلمات وذا السياق انما هو لشاعر من الشعراء المتحدثين بلهجة الشايقية!…
وهنا يعذر المرء النقاد اذ مافتئوا وقافين بين يدي كون شاعرية أهل المنطقة جينية أم كان للمكان بصمته تشكيلا لوجدان الناس في تلك السوح والفضاءات؟!فللرأيين قبول ومناصرين.
هذه القصيدة كم أجدها ريانة بمشاعر الحنين الى الديار وأهلها حد الإشباع! وهي كذلك موغلة في سبر غور الشوق الى حد الارتحال جسدا وروحا مع كل صورة ذكرى تتصعد كما فقاعات الصابون من قصبة يعتمرها طفل يجالس أمه المقعية بتصبار وحميمية على طشت الغسيل وبين يديها حبل تتناثر عليه جلاليب ذكران البيت وألبسة الرياضة والعراريق والسراويل…
والحق أقول بأنني لم اقرأ لشاعر هذه القصيدة المبدع عبدالله التاج قصائد أخر، لكنني أقول بملئ فيَّ انه إن لم يكتب سواها لكفته!
يا الله انت براك الحالة داريبا
من أهلي من خلاي طالتبنا الغيبة
انها الغربة ياأحباب!…
كم لها على النفوس من وطأة، وعلى العقول من إضرار، وعلى الاجساد من انهاك!
كيف لا والمنافي قد كانت ولم تزل تتناوشنا منذ القِدَم فإذا بك تجد في اواسط كل مدينة سودانية وقرية فريقا وحِلَّة للشايقية!
ولاغرو أن الأمر سيان مابين المنفِي وذاك الذي اضطرته (المعايش) لان يدع الديار بأهلها ويهاجر وتطول به الغيبة سنوات وعقود…
والغربة يااحباب كالنار، تُصلي الوجدان فلاتخرج الأشعار إلا ناضجة كما الذهب أصفر فاقع لونه يسر مرآه الناظرين، أو كما رغيف الخبز المبتاع لتوه من الفرن، لاتملك له إلا (قروضا)…
ودوننا أشعار رابطة المهجر من شعراء لبنان المجيدين فقد نظموا أفضل ماعندهم خلال مهاجرهم تلك!…
والأمر عندنا يزداد وهجه وبريقه اذ يستصحب الشعراء فينا حال أهل هم في الناس كما الربيع من الزمان، وكما الأحجار الكريمة من بين صخور الأرض!…
أهلي الحنان بالحيل ديل منبع الطيبة
لي شوفتم مشتاق طولت أهاتيبا
وكم صدق المثل إذ يقول: (الماء من نبعه والمليحة لأمها)…
وأي نبع؟ وأي أم ياأحباب؟!.
لعمري انه نبع زلااااال الماء وأمٌّ كم غنى لها شعراء المكان حتى حفظ الآخرون كلماتنا وسياقاتنا، فاذا بك تجد الأطفال في كل فجاج السودان يغنون وهم (يميلون)، شايلي الحليلي علي المراح، وجبتي اللبن بي انشراح!…
أناس:
ترتا للمسكين تديهو من جيبا
واناس:
للجايع المحتاج تقسم قواسيبا!…
ولولا ذاك لما ترك الحسانية والهواوير كل فجاج السودان ويمموا الى تلك الديار عشما في (قواسيب) التمور والفول والقمح والمريق حين حصاد!…
ياااااه
ما أجمل مشاهد حش التمر ونوريق القمح والفول و(فرض) البراسيم هناك…
وتترى المشاهد في خيال شاعرنا فيأتي العيد فاذا بماكينات الخياتة لها كركبة وأزيز بين يدي الترزية وهم يقابلون العيد وأمامهم اكداس اقمشة الدمورية والدبلان والبوبلين والساكوبيس توغل فيها المقصات لتحيلها عراريقا وسراويلا وجلاليب، منها ماهو بكرشلين وبعضها ذات رقبة وجيوب بقيطان او دون ذلك.
ثم هناك كبارنا من الختمية ممن يحرص على جعل جلابيته ذات لياقة، تكاد تراها في غمار جلبة النوبة براياتها وكشكوشها تلوح لك في سماوات الخيال الجميل…
ثم يأتي العيد والناس قد:
جدعت طواقيها ولبست مراكيبا
مرقت علي الجيران معطونة بي طيبة!…
بالله عليكم تمطقوا عبارة معطونة بي طيبة دي؟!!!
انه الاشباع عندما تصل الحميمية حد الإرتواء بل الثمالة!…
فالطيبة قد تبدو على المحيا والجبين، لكن أن يصل الناس الى حد (العطن) بها فذاك لعمري مناط دونه خرت قتاد القيم والمعاني والمباني في الناس!…
وتترى مشاهد العيد الجميلة…
اتعانقت فرحة شبانا بي شيبة
مااااأجمل المشهد في السوح انتقالا الى البيوت والكل يردد العفو والعافية!
ياااااه
ثم يستبد الشوق بشاعرنا الجميل معربدا في دواخله عن الحلة بكل تفاصيلها، حتى طين اللقدابات وظلال الحوائط عند العصاري عندما تجر الامهات العناقريب ليتمددن من بعد عناء نهار طويل، نكرانا للذات في سبيل اسعاد الاخرين…
واذا بصور الأشياء التي تزين المكان تنبري في خاطره:
قاطوع معشش فيهو الطير
وفي كيمو قسيبا
اربل قديم مهكور مدفونلو في حيبا
وإذا بآفاق الخيال تتجمل بصورة العازة وهي تستظل براكوبتها والسعن مشدود على جانبها،
فكم ابدع شاعرنا وهو يصف ماء السعن بداخله وصف بماء نقاع الزير من حيث صفائه ونقائه بينما الماء داخله يميل الى دُكنة كماء الحمريب!
وهنا يحضرني وصف ربنا جل في علاه للّبن في الآية الكريمة (وانّ لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين)
سبحان الله
فالسعن هو اهاب الماعز، واللبن رفد منها قد تشاركا الوصف بالصفاء والنقاء وان شاب النبع والمصدر ماشابهما!
فلا يلبث شاعرنا الا (مكركعا) من ذاك السعن باااارد الماء وزلاله فقمن به ان يفك الريق للضاربا وِتّيبا…
ثم ينتقل شاعرنا بخياله الى (بلد بي تحت) حيث البوغة والناس على قدم وساق يزرعون والجدول ملان مسروف ماخدلو سرسيبا…
ياااااالهذا الوصف البديع ياأحباب!!!
انه المكان حيث ألق الطبيعة التي صنعت الشعراء والله!
ولعمري لايتكرف جمال هذا الوصف الا من بَوَّغَ وسهر الليل في بلد بي تحت قراع وكلما حانت منه التفاتة الى الجدول يجده مسروفا ماخدلو سرسيبا الا وترتسم على شفتيه ابتسامة بأنه لامحالة منجزٌ قراعته بسرعة، أما اذ انتصف الجدول او سرسب ماؤه في القاع، فذاك لعمري منغصة ومنقصة، اذ سيعلم يقينا بان ليله سيطول وقد لايتمكن من اتمام سقيه الى أن تصيح الديكة في البيوت وتحمل اصواتها إليه أنسام الفجر…
ولاتكتمل الصورة الا بمشهد الصبية وهم يرعون قطعان اغنامهم وفي اياديهم اسواط الكاجنيب وهم في طريق العودة الى البيوت…
يالها من اشواق قد صهرتها نار الغربة فسالت كماء الذهب تمهر الصحائف بقصيدة بديعة حري بها ان تجد من التثمين السمين…
ويزيد الق القصيدة مبدع قد حباه الله مزمارا من مزامير داؤد، إنه إبن نوري الخضراء أرضا واناسي كثر (معتصم ابراهيم) ألا ليته تنفض عن نفسه اغبرة السكون ليجمل حيوات الناس ويرسم البسمة على شفاههم ويجلب السكينة الى قلوب قد انكتها ضغوطات الغربة وتكالبت عليها هموم الدنيا بصوته (المتهدج) بالاشواق، والريان بحميمية الأهل والامكنة والأزمنة.
اليكم القصيدة:
كلمات عبد الله التاج.
ألحان وأداء معـتـصـم إبـراهـيـم.

يا الله أنت براك الحاله داريبا
من أهلي من خلاي طالت بنا الغيبة
أهلي الحنان بالحيل ديل منبع الطيبة
لي شوفتم مشتاق طولت أهاتيبا
ناس ترتي للمسكين تديهو من جيبا
وللجائع المحتاج تقسم قواسيبا
الناس غشاها العيد تفصل جلاليبا
جدعت طواقيها لبست مراكيبا
مرقت على الجيران معطونه بي طيبة
أتعانقت فرحة شبانا بي شيبا
أنا شوقي للحلة طينة لقاديبا لمتين محل الأم جرت عنيقريبا
قاطوع معشش طير في كيمو قسيبا
أربل قديم مهكور مدفونلو في حيبا
وأنا شوقي للعازة وجلسة رواكيبا
سعناً ملا النقاع لو مويتو حمريبا
أتواتا أكركع زين وآخدلي قنيبا مويتاً تفك الريق للضاربا وتيبا
أنا شوقي للبوغه وشتيت تواريبا جدول ملان مسروف ماخدلو سرسيبا
شفع صغار يرعوا تظهر كواجنيبا سايقين قطيع أغنام صادين بها الغيبا
يا الله إنت براك الحاله داريبا
من أهلي من خلاي طالت بنا الغيبه

عادل عسوم

adilassoom@gmail.com