الأمن، وقانون جهاز المخابرات العامة
لا خلاف بأن أجهزة المخابرات، بوجه عام، هي الأكثر ارتباطاً بالأنظمة السياسية الحاكمة، بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم، ديمقراطياً تعددياً كان أو شمولياً، ومن باب أولى إن كان وراثياً، وذلك بخلاف الجيوش وأجهزة الشرطة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية – التي يعتبر الكثيرون نظامها نموذجاً للقياس – ما إن يتولى الرئيس المنتخب السلطة إلاّ ويعمد إلى اختيار قادة جدد لوكالة المخابرات المركزية وللأمن الوطني، قبل أن يختار وزراء الداخلية والدفاع.
وفي السودان، ونظراً لحالة عدم الاستقرار السياسي، والصراع على السلطة، اللذين لازما أنظمة الحكم – منذ الاستقلال – نجد أن جهاز الأمن، بمختلف مسمياته، كان أكثر ارتباطاً بالنظام القائم ، وقد ظهر ذلك بشكل أكثر وضوحاً في عهدي مايو والإنقاذ، حتى أن القوى السياسية التي كانت تعارض ذينك النظامين كانت تستثمر في تشويه صورة جهاز الأمن و تتعمد أن تصفه بأنه جهاز لأمن السلطة السياسية وليس أمن البلد والدولة، تجتهد في أن تلصق به أبشع التهم، وتضخم من أخطائه، وكانت تلك القوى تصر – عقب سقوط النظامين – أن يتم حل جهاز الأمن وتقليم أظافره، وتحويله إلى ما يشبه مركز للبحوث والدراسات.
لقد أدرك الجيل الذي تفتح وعيه على صراعات السياسة في السودان، مطلع ثمانينات القرن الماضي (جيلي أنا)، وكذلك الجيل الذي سبقه، فداحة الخطأ الذي وقعت فيه سلطة الفترة الإنتقالية التي تولت زمام الأمور عقب سقوط نظام الرئيس جعفر نميري في أبريل 1985 حين استجابت لصيحات الغوغاء المصنوعة، وقامت بحل جهاز أمن الدولة، وأودعت قادته وضباطه السجون، ولولا رجال مؤمنون بقيمة الوطن، أمثال اللواء الهادي بشرى، تولوا تصفية الجهاز بعد قرار حله، لذهبت كل أسرار الدولة إلى خصومها الخارجيين من الأنظمة التي كانت تترصد كل حركة وسكنة في البلاد، قبل أن تذهب إلى المعارضين السابقين، لكنه أمكن الإحاطة ببعض تلك الأسرار وحفظها.
ولأن نظام الإنقاذ كان أطول عمراً من نظام مايو، وكانت معارضته أكثر شراسة من تلك، فقد سعى معارضوه، بكل ما أوتوا من حِيل، أن يكرروا ذات السيناريو بحل “جهاز الأمن والمخابرات الوطني”، ورغم أنهم – حينما آلت إليهم السلطة – لم يحققوا كامل مخططهم، بفضل وعي القيادة العسكرية التي تولت الشأن العسكري والأمني عقب سقوط النظام، إلاّ أنهم نجحوا في تقليم أظافر الجهاز بفصل الكثير من ضباطه وبالحد من صلاحياته، ورغم أنهم اكتشفوا بعد وقت قصير قِصر نظرهم وفداحة خطئهم، إلا أنهم أصروا على المكابرة، وقرروا إنشاء جهاز بديل أسموه “جهاز الأمن الداخلي”، ومنحه ذات الصلاحيات التي كانت لدى جهاز الأمن والمخابرات الوطني، بيد أن هذه الخطوة لم تكتمل !!
ربما بعود الأمر لطبيعة عمل أجهزة الأمن والمخابرات نفسها، لكن الثابت أن العامة، في كل الدول، لا يعرفون من الأدوار الهامة التي تقوم بها هذه الأجهزة إلاّ النذر اليسير، ونحن في السودان لم يكن يظهر لنا من تلك الأدوار إلاّ ما يتصل بأزماتنا الملحّة، وهي أزمات سياسية واقتصادية، أما الأدوار المتصلة بدرء الأخطار الخارجية وبمكافحة التجسس، وبحرب المدن، وبمكافحة الإرهاب و الجريمة المنظمة ، وبالتنسيق مع النظراء في جهاز الشرطة والاستخبارات العسكرية، ومع الاجهزة النظيرة في الدول الشقيقة والصديقة، كل ذلك لا نكاد نعرف عنه شيئاً، ولو كان للمرء من مأخذ على إخفاء هذه الأدوار، في السابق، أو عدم إشهارها بما يكفي، فهو أن غيابها يتيح للخصوم المتربصين فرصة لتقوية منطقهم في التدليس والقول بأن هذه الأجهزة إنما هي أجهزة سياسية، لا تفعل شيئاً سوى ترصد الخصوم السياسيين.
أما بالنسبة للحرب التي تدور رحاها في بلادنا منذ أكثر من عام، فقد ظهرت الثغرة التي خلّفها تغييب جهاز المخابرات العامة بشكل جلي، أقول تغييب لأن الفعل كان مقصوداً في حد ذاته، إما بدوافع سياسية، كما ألمحنا، أو بدفع تآمري خارجي، أو نتيجة الاستجابة غير المدروسة لضغوط الناشطين، أو بعدم الأخذ بالتوصيات التي كانت تتضمنها تقارير الجهاز عندما التزم بدور كاتب التقارير، والتي – التوصيات – كانت تقدم قراءة استشرافية لما قد ينتهي إليه الأمر إن تركت الأمور تسير على النحو الذي سارت عليه، وقد حدث ما حدث !!
وفي الحرب التي تدور منذ عام، تجلت مقدرات عناصر الجهاز في دعم وإسناد المجهود القتالي للقوات المسلحة، خاصة وأن للجهاز خبرة طويلة في حرب المدن وفي مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، بل أكثر من ذلك، تجلت وطنية عناصر الجهاز ممن أحيلوا للتقاعد وجرى التشهير بهم، فانخرطوا في صفوف القوات المقاتلة حتى قبل أن تتم إعادتهم للخدمة، وقدموا الشهداء والجرحى والمعاقين، حتى قبل أن تنصفهم قيادة الدولة، وتغطى ظهرهم المكشوف بعدم وجود الحماية القانونية.
الآن وقد أعادت الدولة بعض الحق لأهله، تنتظر جهاز المخابرات العامة، المهمة الأكثر تعقيداً، والتي أضحت مطلباً شعبياً، وهي مهمة توسيع نطاق العمليات القائمة في مجال مكافحة المليشيا وأعوانها، ولا شك أن أول متطلبات عناصر النجاح في هذه المهمة هي حسن التنسيق مع الاستخبارات العسكرية وجهاز الشرطة، ويجب التنويه هنا، بضرورة الانتباه لتجنب الغيرة المهنية، والتقليل من آثارها إلى الحد الأقصى، وهذه بالأساس مهمة قيادة الدولة ومدراء الأجهزة الثلاثة.
إن الأمن، بمفهومه الشامل، لا يقتصر على الأدوار التي يقوم بها جهاز المخابرات العامة، والمضمنة في قانونه الذي جرى تعديله، مهما اتسع نطاقها، وإنما هو شأن تشترك فيه الأجهزة النظامية الأخرى، ويمتد ليشمل أجهزة مدنية وثيقة الصلة بموضوع الأمن القومي، ويقوم الجهاز بعبء تنسيقه، ولهذا ينبغي أن تعمل منظومة الأمن القومي كلها بتناسق وثيق حتى يعبر شعبنا هذه المرحلة الأكثر دقة من تجاربه السياسية.
العبيد أحمد مروح