فخ اليقين في التقلب الأيديولوجي

“مثقف قادر علي عبادة كل هذه الآلهة بالدور لا بد أن يفقد شيئا من مصداقيته.”
من الظواهر الغريبة تحول المثقفين السودانيين من طرف أيديولوجي إلى آخر. وهذا التحول في حد ذاته ليس بالأمر الغريب، فلكل إنسان الحق في مراجعة معتقداته. لكن اللافت للنظر هو اليقين المطلق الذي يُظهرونه في كلتا المرحلتين. فسواء انتقلوا من اليسار إلى اليمين، أو من الإسلاموية إلى العلمانية الليبرالية، أو أي تحول أيديولوجي آخر، فإنهم يكونوا متأكدين من موقفهم الجديد تمامًا بنفس درجة يقين تعصبهم بموقفهم القديم.

في كل مرحلة، ينفي المثقف المتحول خصومه الفكريين ليس فقط كمخطئين، بل أحيانا كخونة أو مغفلين أو ديناصورات متكلسة من ماض سحيق. ما ينقص المثقف المتحول في كلتا الحالتين هو التفكير العلمي: القدرة على الشك الذاتي، وممارسة الشك الديكارتي، أو أي آلية لفحص قناعاتهم نقديًا لتخفيف الغلو. العقل العلمي يمارس الشك الديكارتي بالفحص النقدي في صحة جميع المعتقدات لتحديد أيها يصمد أمام التدقيق حتي لا نرحل من الهجاء الجزافي للعقل الزراعي إلي عبادة المزارع ليصبح كبير المزارعين هو الحل الذي فيه صلاح الدنيا والاخرة.

المتحول المتعصب لا يدرك أن في كل الخلافات الأمينة حول قضايا حقيقية غالبا يكون لكل طرف شيئا مقبولا أو مشروعا- ولكن عند كثير من المتحولين العقل لا يتغير، إذ أن كل ما يحدث هو تبادل مواقع بين الملائكة والشيطان في راسه، فيصبح مثلا الموقف اليساري ضلال واليمين هو الحل بعد أن كان اليمين شيطان واليسار هو الحل. لذلك، ينتقل يقينه من قطب إلى نقيضه، دون تغيير في طريقة التفكير فهو نفس الأقل غير العلمي والفاقد لفضيلة التواضع.

خذ، على سبيل المثال، المثقف الذي بح صوته يوما منددا بالرأسمالية والبنك الدولي باعتبارهما شر محض، ثم اعتنق لاحقًا عقيدة السوق الحر واشتري سحر الرأسمالية غير المقيدة باعتبارها أمل الخلاص الوحيد للبشرية. تكمن المشكلة في رسوخ عقيدته الجديدة بنفس درجة اليقين السابق. وقد لا يكتفي بيقينه بل يقسو علي من يدافعون عن موقفه القديم بالتعالي والسلق فوق الحزام وتحته واحيانا بما هو أسوأ من ذلك.

أو خذ الإسلامي المتدين الذي قد يتحول جذريًا من جند الله إلى الليبرالية العلمانية، ليرى الآن أيديولوجيته السابقة ليست معيبة فحسب، بل مفلسة أخلاقيًا أو بالية. وتتحول الليبرالية من مجون وتهتك إلي استنارة رائعة وحقوق إنسان بدون أدني فحص نقدي لما هو تحت الكبود أو الحروف الدقيقة.

ما يحدث الحالتين ليس مجرد تغيير في الرأي، بل انتقال إلى رذيلة فكرية جديدة – فاليقين الجامد نفسه ولا يتغير سوى إله الولاء.

ولكن التفكير العلمي الحقيقي في الحالتين يتطلب التواضع ورسوخ مبدأ أن راينا يحتمل الخطأ وراي غيرنا يحتمل الصواب. والتمييز يعني فحص أفكارنا نقديا بصورة لا تنقطع ولا تهادن هوي النفس وما رسخ في العقل مع الانفتاح الدائم علي ما يقوله خصومنا لنقبل منه ما يبدو مقنعا أو محترما.

وفي مكتوبه عن المتحولين فكريا ضاق إدوارد سعيد ذرعا من أحد المثقفين وقال أن إنسان قادر علي عبادة كل هذه الآلهة بالدور لا بد أن يفقد شيئا من مصداقيته.

معتصم أقرع

Exit mobile version