قراءة في التصعيد الإقليمي والحرب السودانية:
+ شهدت الأسابيع القليلة الماضية تصعيدًا إقليميًا كبيرًا في اليمن والسودان والصومال. ومن أبرز سماته:
– تزايد تسليح ميليشيات الجنجويد وتطوره على نطاق واسع،
– النشاط الإعلامي المكثف لحلفاء الجنجويد في الداخل السوداني الذين يتكتمون على هويتهم،
– تسارع وتيرة تقسيم اليمن والصومال إلى كيانات أصغر،
– الصفقة العسكرية الضخمة التي وافقت باكستان على بيعها لحفتر في ليبيا،
– زيارة البرهان إلى السعودية وتركيا ومصر، والبيانات القوية الصادرة عن هذه الدول جميعها دعمًا لوحدة السودان وسيادته ومؤسسات الدولة السودانية، بما فيها جيشه.
+لا تكمن أهمية زيارات البرهان في حدوثها بحد ذاتها، بل في كونها علنية ومُعلنة على نطاق واسع في وسائل الإعلام، وتأكيد رسالتها ببيانات قوية على أعلى المستويات في جميع الدول التي زارها.
+من الواضح أن جولة البرهان لم تكن مبادرة فردية من الدولة السودانية، بل كانت خطوة منسقة خططت لها كل هذه الدول – وهذه هي الطريقة التي تعمل بها الدول، بالمناسبة؛ فمعظم المفاوضات المهمة تتم سراً، والظهور الإعلامي الكبير للقادة هو مجرد وسيلة للإعلان عنها وإرسال رسائل مختلفة في طبيعتها وقوتها.
+ زيارات البرهان والحراك الإقليمي علي مستوي القيادات في الإقليم يشير إلي ميلاد تحالف جديد تدخل فيه السعودية ومصر وتركيا والسودان وارتريا. بينما تراقب روسيا وايران وقطر ما يحدث باهتمام. وتقول بعض الشائعات أو التخمينات عن مساع جادة لجر خليفة حفتر تجاه هذا التحالف الجديد وان صفقة السلاح الذي وقعته معه الباكستان – حليفة السعودية – عبارة عن عربون أو قولة خير. والشائعة شائعة قد تصيب أو قد تخيب.
+واتخذ التصعيد منعطفاً جديداً مع أنباء عن تدخل جوي سعودي لعرقلة مخطط تقسيم اليمن. وفي خضم هذا المشهد المتأجج، تترقب روسيا وقطر وإريتريا وإيران، ومن المرجح أن تتدخل كل منها وفق حساباتها في المرحلة المناسبة.
+ وهذا يقودني إلى النقطة الأساسية. بات من الواضح الآن أن السودان ظل جزءاً من خطة طويلة الأمد وضعتها قوى عالمية وإقليمية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط والقرن الأفريقي.
+ في ضوء هذه التطورات، يتأكد بجلاء أن التفسيرات السطحية السابقة للحرب في السودان – سواءً باعتبارها صراعاً بين جنرالين فاسدين، أو مؤامرة للإخوان المسلمين لإجهاض الديمقراطية – كانت تفسيرات واهية وخاطئة جملة وتفصيلاً. ويمكن إرجاع هذا الخطأ الفادح في التقييم إلى عدة أسباب:
– كانت دعاية الغزاة قوية، إذ استثمرت أموالاً وموارد طائلة لتزوير صورة الحرب وغسل أدمغة الشعب السوداني والرأي العام العالمي.
– عمل حلفاء الغزاة من أهل السودان بلا كلل على الترويج لرواية زائفة عن الحرب، محملين الإخوان المسلمين مسؤولية كل ما هو خاطئ في السودان.
– فشل اليسار في مواجهة التحدي وكشف الحقيقة. فقد انضمت عناصر منه إما إلى دعاية الغزاة وعملائهم المحليين، أو نأوا بأنفسهم ، واختاروا الصمت حفاظاً على سلامتهم ومصالحهم، تجنباً لدفع ثمن تبني الموقف الوطني. لكن بعض عناصر اليسار اتخذت موقفًا مشابهًا بسبب سطحيتها الأيديولوجية. فهم عاجزون عن التفكير بأنفسهم في التحديات الجديدة والفريدة التي لم تُكتب لها نصوص من قِبل رواد اليسار الأوروبيين لتنير لهم الطريق بفقه القياس. ومن هذا ليبراليون ويساريون يتعاطفون مع غزة حماس وايران الملالي في حروبهما ولكنهم يقبلون العدوان الأجنبي علي السودان بحجة سيطرة الاخوان.
– الجنون بالإخوان كخيار فكري بديل: لعقود، أصبح الموقف التبسيطي المعادي للإخوان بديلاً سهلاً عن التفكير السياسي الجاد لدى الطبقة المتعلمة في السودان. وقد مثّل هذا الموقف معيارًا سهلاً وبسيطًا لادعاء الوطنية الفكرية والديمقراطية، مُعفيًا أتباعه من التحليل الدقيق والمسؤولية الأخلاقية. وقد خنق هذا التوجه الفكر السياسي السوداني الأصيل. على مدى عقود، انتشرت فزاعة الإخوان المسلمين المتطرفة بين الطبقة المتعلمة السودانية لأنها أعفتهم من القراءة والتفكير الجاد. لكي تُعتبر مثقفًا ووطنيًا ديمقراطيًا مُعتمدًا، يكفيك أن تسبّ الإخوان المسلمين وتربطهم بأي مشكلة في العالم. لقد ظلت فزاعة الإخوان المسلمين بمثابة هدية للطبقة المتعلمة لأنها أعفتهم من التعمق في جميع المسؤوليات الفكرية والأخلاقية. شخصيًا، لا أذكر آخر مرة سمعت فيها نقاشًا سياسيًا عن السودان لم ينتهِ بالشكوى من شرور الإخوان المسلمين. الاستخدام النفعي الدعائي لفزاعة الإخوان شهادة موت الفكر السوداني ووعيه السياسي.
– هناك ملايين من السودانيين اتخذوا موقفًا خاطئًا من الحرب لأنهم وقعوا ضحية للدعاية المذكورة آنفًا. هؤلاء أناس طيبون يمكن التماس العذر لهم.
– أن أحد أكبر الأخطاء التاريخية التي وقع فيها الصادقون هو عجزهم عن فهم الطبيعة الحقيقية للحرب السودانية. إن تزوير الحرب كجهاد عالمي ضد إرهاب الإخوان ما هو إلا إعادة لملف برر فيه الإستعمار حروبه وهيمنته علي دول الجنوب بإستدعاء مخاطر الشيوعية أيام الكتلة السوفيتية. عليه كان المتوقع أن يكون اليسار هو الأسرع لفهم الإستعمال الخسيس لفزاعة الاخوان ولكن هذا لم يحدث للأسف ربما بسبب تمكن لوثة الكيزان واهم من ذلك الإرهاب الذي مارسه الطرف الاخر بدمغ كل مخالف بتهمة الكوزنة. وهذه تهمة خطيرة تحرم المتهم من مصادر عيش أو من ورشة يقتات منها أو سفرة وتشوه صورته الإجتماعية وقد تدخله في مشاكل مع قوي عالمية وإقليمية لو منعته فقط من فيزا الدخول تكون العقوبة صعبة عليه.
– وجاء هذا العجر من جهات أخري كخيانة تاريخية للشعب السوداني شارك فيها يساريون وليبراليون وإسلاميون تائبون إلي مراعي الإمبريالية الليبرالية بعد أن جفت خزائن الإسلام السياسي. إذ ربما انطوت الحرب سريعا لو تم توصيفها علي حقيقتها منذ ضربة البداية في الداخل والخارج ولكن هذا لم يحدث بسبب دعاية الغزاة وتدليس الليبراليون واليساريون.
+ ختاما نعتقد – وقد نخطئ أو نصيب – أن الحراك الإقليمي تغير إيجابي من وجهة نظر الدولة السودانية لان هذا البلد لم يعد لديه ما يخسره. فبعد أن واجه السودان وحيدا عدوان أمضي سيوف المعز واكبر كنوز ذهبه فان دخول قوي إقليمية وازنة في حلبة الصراع من شأنه أن يخفف الضغط عليه ويحسن من فرصه.
+ ان صمود الشعب السوداني نحو ثلاثة أعوام أمام غزو ضارب من قوي ترتعد منها فرائض شعوب لهو ملحمة بطولية فذة سيعترف بها التاريخ يوما ما حتي لو صورها الآن الكمبرادور التابع لمراكز الغزاة والمرتبط عيشه بهم عضويا علي إنها كوزنة وان أبطالها دعاة الحرب.
معتصم اقرع
