التحول المدني الديمقراطي … هم يفهمونه أما الدهماء فلا.
معلوم ان مذهب العلمانية في معناها النهائي، تعني فصل الدين عن الحياة الإنسانية، وهو المعني الأكثر تميّزا لها من تعرّيفها في معناه الضيق، الذي يعني بفصل الدين عن الدولة في سياق المبادئ الديمقراطية والليبرالية، فالمعنى الأشمل للعلمانية يتمثل في ضرورة فصل المعنى الإلهي عن الجدل الإنساني والاهتمام بهذا الأخير بعيداً عن المعاني الدينية التي ستفسده في التحليل النهائي.
إلا أن العلمانية بإمكانها الاعتراف بحرية الاعتقاد والأيمان الديني، ما بقي هذا الأخير بعيداً عن ممارسه توجيه الحياة العامة أو الخاصة في المجال السياسي أو نحوه، أي ما بقيت الهداية الدينية للعالم بعيدةً عن توظيف الحكومات أو الجماعات السياسية في الحياة الاجتماعية، ويكون ذلك عندما تتخذ الدولة موقفا محايداً من المسائل الدينية والعقيدة الإيمانية، وإلا فلا يجب أن تعطي الدولة امتيازات أو إعانات إلى الأديان، دعك من أن تتبني الرؤية الدنية كرؤية لمشروع للإصلاح الاجتماعي.
وهكذا فإنه لا يختلف معنى العلمانية في معناها الضيق، اعنى بمعنى فصل الدين عن الدولة عن المعني العام الأم، الذي يعني فصل الدين عن الحياة الإنسانية، فهو ليس إلا تجلياً من تجليات معنى الحرية الفردية المقدس العام، كون أن فصل الدين عن الدولة فحسب، لا يكفي من الناحية الواقعية لضمان الحرية الفردية كإحالة نهائية للعلمانية في مقابل الهداية الدينية، لان حقوق الأفراد لا تنال إلا عندما يتم النظر إليها بمعزل عن الأخلاقية الدينية، وفي كلا الحالتين فالنتيجة واحدة.
وهي ضرورة الإيمان بان الأنشطة البشرية والقرارات، سواء السياسية العامة منها أو الاجتماعية أو الفردية، ينبغي أن تستند إلى المعايير المادية والغايات الدنيوية بدلاً عن تأثيرات الهداية الإلهية، كون أن العلمانية وعلى المستوى العام أو السياسي تطالب بحرية الاعتقاد وتحرير المعتقدات الدينية من تدخل الحكومات والأنظمة، وذلك بتجاوز الدولة لتوظيف أية معتقدات دينية أو غيبية، وحصر وظائف الدولة في الأمور المادية فقط.
والحقيقة أن نظم الحكم الديمقراطية الغربية، قد أخذت أبعادها ومعناها من كهذا سياق فلسفي، لتعرف النظم السياسية بكونها بنية للسياسة والحكم، تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، كما أنه بالإمكان النص على عدم قيام أحزاب وجماعات سياسية على أساس ديني في دستور الدولة. باعتبار أن الإحالة النهائية للحداثة والليبرالية والديمقراطية، هي إحالة الحرية الفردية كلازمة لمنافسة عادلة بين القوي السياسية، عندما لا تمتاز قوي سياسية ما بامتيازات رمزية دينية على القوي الأخرى المنافسة، حتى يسمح بحرية سائر الأفراد في التعبير عن أراءهم بلا وصايا دينية، كونه وبدون هذه الحرية الفردية لا يمكن للسياسيين والمفكرين العلمانيين أن يعبّروا عن آرائهم بحرية، مما يخل بمبدأ الحرية الأساسية للدعاية الانتخابية التي يمكن أن تتضمن ما هو مخالف للدين.
ودلالة ذلك أنه إذا كانت الديمقراطية في المعنى الضيق تعني حكم الأغلبية بدون الاهتمام بحريات الأقلية، فإن هذا المعنى يقتضي شرطاً ضمنياً هو شرط فصل الدين عن الدولة بالضرورة، لكون النظم الديمقراطية تعتمد على اختيار أغلبية الشعب التي قد تكون دينية، ويمكن أن تكون لا دينية. أما إذا كانت الخيارات دينية واصدم ذلك بمبدأ الحداثة المقدس، أعنى مقدس “الحرية الفردية”، فإنه يجب التضحية وبسهولة بالمعنى الديني في السياسة، كونها وصايا مناهضة لمقدس الحداثة في الحرية الفردية.
وبذلك فإن العلمانية تتحول بفضل إطلاقيه فكرة الحرية الفردية، إلى أيديولوجيا للحياة الاجتماعية والسياسية كمقدس للإنسان الحر، أيديولوجيا تشجع المدنية العقلانية والفردانية والحداثة، وترفض الأخلاقية الدينية كمرجع في الحياة الإنسانية بصفة عامة، كما يمكن اعتبارها دين أو مذهب وجودي يتجه إلى أنّ الأمور الحياتية للبشر، يجب أن تكون مرتكزة على ما هو دنيوي ملموس وليس على ما هو غيبي، وأن يتحرر الإنسان بالكامل من الثقافة والنفوذ الديني، وتُفسّر العلمانية من هذه الزاوية الفلسفية على أن الحياة ستستمر بشكل أفضل ومن الممكن الاستمتاع بها بإيجابية عندما نستثني الدين والمعتقدات الإلهية منها، وعندها تتحول العلمانية نفسها إلى دين دنيوي مقدس، لا يجوز المساس به.
عندئذ فإن الرؤية الدهرانية أخذت تنصرف نحو “الدولة” بوصفها إحالة نفسها النهائية، المكتفية بذاتها على المستوي التشريعي القانوني، وعلى الصعيد الاقتصادي والمادي، وكذا على الصعيد العسكري والأمني، فضلاً عن الصعيد الثقافي والأدبي والرمزي، كونها تحوز على جيوش الموظفين وعلى التنظيمات الإدارية البيروقراطية الموحدة للغايات الوسائل، والمزودة بأدوات الإعلام والاتصال، فتتصرف الدولة عندئذ بمنطق عقيدة دين وضعي سلطوي متجاوز للمعنى الديني السماوي الذي اعتبر معوق أساسي للحرية الفردية أيقونة الحداثة الجميلة، بوصفها معنى مطلق “الإله المادي” بتعبير “هوبز” الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أما دين الدولة الوضعي ومنطقها فهو دين الولاء السياسي والإيمان بالدولة وأخلاقيات الصيرورة والإجراءات السياسية أو الأمنية التي لا علاقة لها بالأخلاق الدينية كما نعرفها، ولا تستمد مسوغات أفعالها السياسية من الإرادة الإلهية أو الإرادة الشعبية وإنما من عقيدة السيطرة والهيمنة وفرض الهيبة وحسب، كما عند “مكيافيللي”.
والواقع أن “الدولة المدنية” العلمانية عندما تطرح نفسها، من منطلق عدم الرغبة في تدخل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها وعندما تجعل من مفهوم المواطنة هو أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، فإنها قد جعلت للدولة مفهوماً مرجعياً “مقدساً” و”مطلقاً” مسبقاً، وجعلت من “المواطنة” هي دين العلمانية التي تشكل ضمانة تفسيرية وقيمية مفترضة للحرية الفردية والمساواة ولتلاحم المجتمع، وبذلك تكون العلاقة بين المواطن والوطن والدولة المدنية هي علاقة دين سياسي علماني لا ديني وليست علاقة دين سماوي قد يحد “توهماً” من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات المختلفة في الدولة. وهو تصور سياسي يتناسى إن الحكومة العلمانية نفسها قد تكون عرضة لخلق مشاكل أكثر تعقيداً في الحياة السياسية، عندما تفرض إرادة الأغلبية على الأقلية باسم سيادة حكم القانون فتهدر عندئذ حريات أولئك الأفراد.
في حين أنه ومع حكومة تقوم على تعاقدية دينية ارتضائية أو على الأقل ليست علمانية، فإن هناك إمكانية لحياة إنسانية أفضل. قوامها نظرياً وعملياً إمكانية وجود نظامين اجتماعيين بكامل مكوناتها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والثقافية … الخ، بحيث يكونا متضايفين ومتعايشين في المكان الواحد، وفي حدود الوطن الواحد كالبلاد الإسلامية المتنوعة ثقافياً، أو في حدود العالم ككل، وتكون العلاقات السياسية بينهما على اساس معاهدات وتحالفات سياسية تضمن التعايش السلمي الأهلي، بين المجموعات المتمايزة دينياً، بما تضمن التعاون فيما بين المجتمعات المتباينة ثقافياً.
ودلالة ذلك أن الدولة ومهما كان مبررها الواقعي في الحاجة إلى دولة القانون والأمن والنظام والخدمات والتداول السلمي للسلطة ونحوها من وظائف حيوية في المجتمع صحيحاً، إلا أنه لا ينبغي أن يستطيل ليستحوذ على الحياة السياسية، بل المطلوب هو تجديد حياة الاجتماع السياسي، بحيث يكون هناك نوع من تكامل الأدوار، بين النظام السياسي وقوي المجتمع، فتكلف الدولة بمهمات السياسة المقيدة بقيود الدستور في الحياة السياسية، وتكليف المؤسسات الأهلية بإدارة شئون المجتمع، فيكون للإنسان دوره، وللمسجد دوره، وللمدرسة دورها وللمؤسسات الحرفية دورها وللسوق دوره … الخ، فيكون توزيع الأدوار سبيلاً يكبح من سيطرة النظام السياسي على المجتمع، فيكون لك مجاله الخاص. حتى لا يعمد النظام لإتباع سياسة السيطرة الشاملة، فيسعي للقضاء على المؤسسات الاجتماعية الوسيطة، وبالنتيجة يصير الإنسان فرداً معزولاً ًمعرضاً مباشرة لهيمنة الدولة وإكراهاتها وإغراءاتها، فيتمزق نسيجه الاجتماعي، وحتى لا تقع ردة الفعل برفض مؤسسة الدولة من أساسها، بالدعوة إلى القطيعة معها، فيتعمق الصراع الاجتماعي ويتمزق النسيج الاجتماعي معه، ومن ثم تتعطل وظيفة النظام السياسي وظيفة المجتمع معاً.
وهكذا فانه وانطلاقاً من مقاصد أنموذج الرؤية التوحيدية للحياة السياسية، فانه لا ينبغي ان نسعى لاستلاب هويات الشعوب والجماعات بمصادرتها كما هو الحال مع سائر النظم والاتجاهات الديمقراطية باسم مبدأ المواطنة المؤسس على قاعدة الأغلبية، وإنما يعمد إلى انفتاح الهويات بالدعوة والحوار الأحسن إلى الغاية التي ينبغي أن يتحرك نحوها الإنسان، أي يحاول طوعاً أن تنفتح تلك الهويات بالله تعالى، هذا المعنى هو ما ميز معنى الاستخلاف في الخطاب الديني، كما سياتي بيانه، في مقابل جدل الحرية في الفكر الديمقراطي، الذي سينتهي إلى هضم حرمات الإنسان وسلب حريته وثقافته عندما توضع القوانين والتشريعات المنظمة للحياة الاجتماعية وفقا لإرادة الأغلبية بعيدا عن إرادة الأقلية، في حين أن معنى الإستخلاف هو محاولة لجعل القلوب البشرية، تنفتح على معنى الإيمان بالله تعالى، بدلاً عن الانغلاق العرقي أو القومي … الخ.
محمد المجذوب

