ما بين الدم والبندقية

“عِنْدمَا يَذْهَبُ الشُّهَدَاءُ
إِلَى النَّوْمِ أَصْحُو، وَأَحْرُسُهُمُ مِنْ هُوَاةِ الرِّثَاءْ
أَقُولُ لَهُم: تُصْبحُونَ عَلَى وَطَنٍ
مِنْ سَحَابٍ وَمِنْ شَجَرٍ، مِنْ سَرَابٍ وَمَاءْ
أُهَنِّئُهُم بِالسَّلامَةِ
مِنْ حَادِثِ المُسْتَحِيلِ
وَمِنْ قِيمَةِ الَمَذْبَحِ الفَائِضَهْ” | محمود درويش
في خضم الصخب السطحي الذي يحاول اختزال التضحية في انفعال عاطفي أو انتماء ضيق، يبرز واجب فلسفي لإعادة تأطير مفهوم الشهادة. إنها ليست مجرد نهاية حياة، بل هي ذروة وجود واعٍ، اختار أن يتحول من كينونة فردية إلى قيمة مطلقة تخلد في الوعي الجمعي.
ولو أني لا أفضل الكتابة حول العلاقة التي تجمعنا ببعض الشهداء إلا أنه من باب الاستحقاق و الواجب الكتابة عنهم و عن تجاربنا معهم.
لطالما شكّلت الممارسة السياسية في فضاء الجامعة حقل صراع بين التأييد والمعارضة في العلاقة ما بين المنظومات الطلابية و التيارات السياسية المؤيدة للنظام. لكن هذه الثنائية تخفي تحتها سؤالًا أعمق: هل السياسة هي مجرد انتماء إلى تيار، أم هي بحث دؤوب عن الحقيقة عبر النقد والمساءلة؟
كنت رادكاليا اتجاه الممارسة السياسية و الثقافة السياسية التي راكمتها التجربة الطلابية المعارضة و الحركة الطلابية ككل.
نشأت هذه التجربة من ثقافة سماعية لا كتابة فيها صادقة بل زيف يلقن من خلال جلسات التوريش التي هي مجرد جلسات “ونس” في بعض المقاهي العامة او دور الاحزاب ولا تأكيد تفرز هذه التجربة كوادر قليلو الأفق، صغار نفوس و فقيرو في الامكانيات.
سمحت لي تجربة الاحتكاك بطلاب خارج وعاء الاحزاب السياسية بالنظر الى ما أكثر من مجرد المعارضة ومن ثم الاختلاط اليومي أيضا ترك لنا باب لل التعلم و أذكر جيدا تلقينا للقادمين سواء من سياسيين أمثال الشيخ ” فتح العليم عبد الحي ” في مقاهي بورتسودان مما سمح لنا بتشكيل مقاربات نقدية و فهم الشروط التي كانت تحرك التجربة السياسية لمن يعارضون مواقف النظام من داخلها.
امتدت النقاش الى اوسع من ذلك حيث اقتحمنا منابر الندوات التي كانت تقام في جامعة البحر الأحمر من قبل قيادات عليا في النظام من بينهم ” أمين حسن عمر ” انتقلنا بالتجربة لما بعد الجامعة و في فترات سبقت سقوط النظام أيضا.
خلال فترة الحراك كان النقاش مفتوح على مصرعيه خصوصا للذين كانوا جزء من المظاهرات، من بينهم الشهيد محمد الفضل. و الذي بدأ النقاش معه بعد ” إلغاء قانون التطبيع ” حيث كان الشهيد ضمن جلسات عن بعد أقيمت بخصوص مقاومة هذا القرار و ما سيعقبه.
انقطعت النقاشات بشكل شخصي عنه الا انها تجددت قبيل الحرب حيث اقترح الشهيد ندوة بعنوان ” المنهج الثقافي كمسألة استعمارية” صراحة لم يكن العنوان يروق لي و كنت معترض عليه لانه يحمل حكم مسبق ولا يمكن للمتلقي أن ندخل معه في نقاش حسم مسبقا.
دخلنا في نقاشات مطولة حول المسألة الفكرية في السودان و أذكر جيدا تلك الفترة كانت محاضرات دكتور ” محمد عبد الرحمن بوب ” في مركز تأسيس فامتد النقاش ليدخل في مسألة الجنوب.
حتى بعد الحرب تواصل النقاش مع الشهيد و انقطع قبيل استشهاده، من خلال تجربتي وجدت الشهيد محمد الفضل ذو فكر و موقف صادق ليس منجرف عن عاطفة او انحياز أسري.
وفي اطار أيضا نقاشات متواصلة مع شباب ضمن كتائب الاسناد سواء الثورية او البراء بن مالك على هوامش الموقف السياسي من هذه الحرب و تشكيل الافق السياسي و القومي و سبب تعزيز الترابط فيما بين التشكيلات السياسية المختلفة المشكلة للقوى المسلحة في الحرب و خوفا من الانجراف نحو قبائلية و فرقة سياسية.
خلال هذا الزخم وقعت الظروف في نقاشات مع الشهيد مهند فيما يتعلق بالموقف السياسي من القضية الفلسطينية بجانب قضايا السودان المتعلقة بالقومية و الموجهات الخارجية لعلاقة السودان مع دول الجوار
كان الشهيد مهند صاحب ثقافة و رأي مستقل في أصالته متسق مع موجهاته التي كان يحملها من أفكار و رؤى عامة صراحة لم ألحظ فيه التابع الذي يتخذ من السلاح فضل على غيره بل كان بمثابة المتعلم الذي يتلقى أكثر مما يقول أو يظهر.
في النهاية، هؤلاء الشهداء لم يقدموا أرواحهم فحسب، بل قدموا نموذجًا للوعي المسؤول. الوعي الذي يرفض أن يكون تابعًا، الذي يتلقى أكثر مما يقول، والذي يبحث بصدق عن الحقيقة حتى في قلب المعركة. تضحيتهم كانت أعمق من الدم؛ كانت إعلانًا عن انتصار الإرادة الإنسانية في البحث عن المعنى، حتى عندما يكون الثمن هو الوجود نفسه.
لقد انتقلوا من دائرة الزمن الفاني إلى دائرة الخلود في الذاكرة والأفكار. وهنا يصبح واجبنا ليس البكاء فقط، بل الاستمرار في المساءلة والنقد البناء، لأن إخلاصهم لفكرتهم هو الدليل على أن أعلى درجات التضحية هي تلك التي تقترن بأعمق درجات الوعي.
حسان الناصر






